مع الحملة العسكرية المتصاعدة التي ابتدأتها راعية الصليب في العصر الحاضر على بعض الدول الإسلامية، والتي يُنتظر –حسب ما يخطط له الصليبيون والصهيونيون- أن تعم دول العالم الإسلامي –عرباً وعجماً- بدأ يكثر الكلام وترتفع الأصوات في وسائل النشر المتعددة بالحديث عن “الآخر”، حتى أصبح هذا اللفظ بمثابة مصطلح يُتداول بين الكتاب، وفي المناقشات والحوارات، وبدأت تغزو أسماعنا مقولات: “ما الموقف من الآخر” و”العلاقة بالآخر” و”ينبغي أن لا تنفي الآخر” و”ينبغي التسامح مع الآخر”، “التعاون مع الآخر” ولابد أن يكون هناك “موقف حضاري وتعددي من الآخر” ومطلوب “القبول بالتعددية والاعتراف بالآخر” و”الاعتراف بحق الآخر في التعبير عن وجوده، وأفكاره بعيداً عن ضغوط الإكراه وموجات النفي والإلغاء” و”إعادة الاعتبار إلى الآخر وجوداً ورأياً ومشاعرَ” و”اكتشاف العناصر والمفردات الداخلية والخارجية التي تضيق الهوة مع الآخر”.
تلك عينة من العينات التي باتت تتردد على ألسنة الكثير من الكتاب والكاتبات، والمقصود بالآخر في هذا الكلام “غير المسلم” أي الكتابي أو الكافر، وهذا الكلام موجه للمسلمين، ومن يطالعه يُخيَّل إليه من النظرة الأولى أن المسلمين جماعة من المتخلفين المتوحشين الذين يعيشون حياة بعيدة عن معاني الرقي والتمدن والحضارة!! وأنهم لا ينظرون إلا لأنفسهم إما جهلاً وانغلاقاً، وإما تجبراً وكبراً، ثم يدلي كلٌ من هؤلاء الكتاب والمتحدثين برأيه في تعليم المسلمين كيف يكونون متحضرين متقدمين في تعاملهم مع “الآخر” وفي النظرة إلى “الآخر” وموقفهم من “أفكار الآخر”! وسنحاول بعون الله أن نلقي الضوء على هذه القضية على النحو التالي:
من “الآخر” ؟!
كثير من المواطن المطروحة للنقاش في هذا الموضوع تذكر كلمة “الآخر” دون بيان المراد منها، وفي بعضها يُبين أن المراد هو “غير الإسلامي”، ولفظ “الآخر” لغةً لا يحمل قيمة دلالية تتعدى أو تتجاوز معنى لفظ “غير” دون أن يكون في ذلك دلالة على المخالفة أو الموافقة؛ فالآخر قد يكون منا، وقد يكون من غيرنا؛ قال الله تعالى: “وآخرين منهم لما يلحقوا بهم”، قال ابن جرير: “عني بذلك كل لاحق لحق بالذين كانوا صحبوا النبي صلى الله عليه وسلم في إسلامهم من أي الأجناس؛ لأن الله عز وجل عمَّ بقوله: (وآخرين منهم)”؛ فهنا وصف “الآخر” بأنه منهم، مما يعني أن “الآخر” قد يراد به المخالف، كما يراد به الموافق، وعلى ذلك فإن هذا اللفظ واسع المعنى يشتمل على أنواع متعددة من الموافقة والمخالفة على تعدد درجاتها، وحينئذ لا ينبغي أن يساق الحديث عن “الآخر” مساقاً واحداً؛ بحيث يعم الجميع بحكم واحد أو موقف واحد.
وقد ظهرت مواقف كثيرة قدمت فيها أوراق وبحوث أغلبها ينطلق من الحديث عن “الآخر” بغير تفريق بين أنواعه، والسلوك الذي يوصف بأنه علمي يستوجب التفصيل حتى لا يكون هناك تجاوز في الأحكام والمواقف.
أنواع “الآخر”
“الآخر” قد يكون كافراً، وقد يكون مسلماً، والكافر أنواع: فمنه الكافر الحربي، والكافر الذمي، والكافر المعاهد.
والمسلم أنواع: فمنه المسلم الذي هو من أهل السنة والجماعة، ومنه من هو من أهل البدعة والضلالة، والبدع منها الغليظة المكفِّرة ومنها دون ذلك؛ وإزاء هذا التباين الشديد؛ فإن سَوْق الكلام عن “الآخر” سوقاً واحداً فيه ظلم كبير، وتجاوز للصواب بيقين، وهو مُوقع في أحد الأطراف: إما الإفراط، وإما التفريط، وقديماً قالوا: كلا طرفي قصد الأمور ذميم). (ا.هـ من مقال الأستاذ محمد شاكر الشريف بمجلة البيان، العدد 206 بتصرف يسير).
قلتُ: ولكل ممن ذكره الأستاذ وفقه الله أحكامه التي تخصه؛ فالتعامل مع الكافر الحربي يختلف عن التعامل مع الكافر الذمي أو المعاهد، والتعامل مع المسلم يختلف عن التعامل مع الكافر، والتعامل مع السني يختلف عن التعامل مع المبتدع .. وهكذا؛ فمن الخطأ والانحراف المساواة بينهم جميعًا في أحكام واحدة.
وقد بيَّن العلماء رعاهم الله هذه الأحكام المتعلقة بكل صنف ممن سبق؛ فألفوا في “أحكام أهل الذمة” ، وكتبوا في “أحكام أهل البدعة” .. الخ .
أنموذج لمن يحاول “مساواة” الكافر بالمسلم عند الحديث عن الآخر
الأمثلة كثيرة في كتابات المعاصرين ممن يخوضون بجهل وهزيمة نفسية في هذا الموضوع؛ حيث التلبيس المتعمد وتتبع الشبهات والمتشابهات لكي يساووا “شر البرية” من أصحاب الجحيم بأهل الإيمان والإسلام! ويتعجب المسلم لهذا الجلد والحماس في سبيل الهدف السيئ السابق؟ هل هو لأجل إرضاء اليهود والنصارى، والظهور أمامهم بمظهر المتمدن المتحضر؟! فالله سبحانه يقول (ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم) فأربعوا على أنفسكم يا قوم ؛ فإننا لم نر من الآخر!! -رغم مداهناتكم وتزلفكم لهم- سوى المزيد من الاستكبار والتسلط على المسلمين (فكريًا وعسكريًا). فلا للأعداء أرضيتم، ولا لدينكم أبقيتم.
يقول أحد العلماء الكرام (1):
(..كثر على ألسنة بعض الكتاب أنه لا تجوز تخطئة المخالف، وأنه يجب احترام الرأي الآخر، وأنه لا يجوز الجزم بأن الصواب مع أحد المختلفين دون الآخر. وهذا القول ليس على إطلاقه؛ لأنه يلزم عليه أن جميع المخالفين لأهل السنة والجماعة على صواب ولا تجوز تخطئتهم، وهذا تضليل؛ لأنه يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم: “وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة. قيل: مَن هي يا رسول الله؟ قال: هم مَن كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي”.
ويلزم على هذا القول أيضا أن المخالف للدليل في مسائل الاجتهاد لا يقال له مخطئ، ولا يردّ عليه، وهذا يخالف قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران. وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد”، فدل على أن أحد المجتهدين المختلفين مخطئ، لكن له أجر على اجتهاده ولا يتابع عليه؛ لأن اجتهاده خالف الدليل، وإنما يصحّ اعتبار هذا القول، وهو عدم الجزم بتخطئة المخالف، في المسائل الاجتهادية التي لم يتبين فيها الدليل مع أحد المختلفين، وهو ما يعبر عنه بقولهم: “لا إنكار في مسائل الاجتهاد”، و”الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد”.
وهذا من اختصاص أهل العلم وليس من حق المثقفين والمفكرين الذين ليس عندهم تخصص في معرفة مواضع الاجتهاد وقواعد الاستدلال أن يتكلموا ويكتبوا فيه.
ولو كان لا يُخطّأ أحد من أصحاب الأقوال والمذاهب لكانت كتب الردود والمعارضات التي ردّ بها العلماء على المخالفين كلها مرفوضة، ولما كان لقوله تعالى “فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ” فائدة ولا مدلول؛ لأنه لا تجوز تخطئة المخالف، وهذا لازم باطل؛ فالملزوم باطل.
وما نقرؤه وما نسمعه من اتهام للعلماء الذين يردّون على المخالفين بأنهم يحتكرون الصواب لهم، ويخطئون مَن خالفهم، وأنهم يصادرون الآراء والأفكار.. إلى آخر ما يقال؛ فهو اتهام باطل؛ فإن العلماء المعتبرين لا يحتكرون الصواب في أقوالهم، وإنما يخطئون مَن خالف الدليل، وأراد قلب الحقائق؛ فيردّون على مَن هذه صفته عملاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “الدين النصيحة، قلنا: لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم”. وقد ردّ الله سبحانه وتعالى على أهل الضلال في مواضع كثيرة من كتابه الكريم، وشرع لنا الردّ عليهم؛ إحقاقاً للحق، وإزهاقاً للباطل. ولولا ذلك لشاع الضلال في الأرض، وخفي الحق، وصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً.
وإذا كان حصل من بعض المتعالمين سوء أدب مع المخالفين، وتجاوز للحدود المشروعة في الردّ فهذا لا ينسب إلى العلماء، ولا يتخذ حجّة في السكوت عن بيان الحق، والردّ على المخالف، هذا ما أحببنا التنبيه عليه “إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ”، وصلى الله وسلم على نبينا محمّد وعلى آله وصحبه).