مَن منا لا يتذكر الجدل الكبير الذي أثير في 2012 حول فتوى المجلس العلمي الأعلى المتعلقة بقتل المرتد.
وهي الفتوى التي أحرجت وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية أحمد التوفيق فسارع في البرلمان إلى اعتبرها مجرد رأي فقهي، وهاجمتها المنابر الإعلامية ونشطاء حقوقيون علمانيون، وقال المتطرف أحمد عصيد “هي فتوى حمقاء منبعثة من العصور الغابرة تجاوزها تاريخ (الفقه الجديد)”.
واليوم وبعد مرور 5 سنوات وخلال أشغال الدورة الثالثة والعشرين للمجلس العلمي الأعلى التي عقدت نهاية دجنبر المنصرم أكد الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، محمد يسف، في كلمة له بالمناسبة أن “علماء المؤسسة قاموا هذه السنة (2016)، بإصدار وثيقة مصححة لمفهوم السلفية، كما وضع فضلاء من بينهم مشروع وثيقة تصف “سبيل العلماء”، وهي ثمرة ما استنبطوه من ممارستهم الفكرية والعلمية” وفق قوله.
وثيقة “سبيل العلماء”، في صفحتها 98 وبالضبط تحت عنوان “قضايا العدل والتضامن والحقوق والحريات في الأمة” نصت على خلاف ما سبق للمجلس أن أكده في “فتاوى الهيأة العلمية المكلفة بالإفتاء 2004 ـ 2012” بخصوص حكم المرتد.
حيث جاء في الوثيقة الجديدة الصادرة نهاية 2016 “قد أثيرت في الإسلام قديما ولا تزال تثار قضية الردة والمرتد، ويبقى الفهم الأصح والأسلم لها المنسجمُ مع روح التشريع ونصوصه ومع السيرة العملية للنبي صلى الله عليه وسلم أن المقصود بقتل المرتد هو الخائن للجماعة، المفشي لأسرارها والمستقوي عليها بخصومها؛ أي ما يعادل الخيانة العظمى في القوانين الدولية، وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: «من بدل دينه فاقتلوه»، المقيد بقوله صلى الله عليه وسلم: «..التارك لدينه المفارق للجماعة»”.
وفسرت الوثيقة ترك جماعة بأن “ترك جماعة المسلمين لم يكن حينها إلا التحاقا بجماعة المشركين خصومهم وأعدائهم في سياق الحروب الدائرة بينهم. فالردة هنا سياسية وليست فكرية. ولقد تحدث القرآن الكريم عن الردة الفكرية في آيات عديدة ولم يرتب عليها عقوبة دنيوية وإنما جزاء أخرويا كما في قوله تعالى: ﴿ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فقد حبِطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ [البقرة:215]”.
وبرَّر المجلس العلمي الأعلى تراجعه عن قتل المرتد بأن “ثمة شواهد في السيرة النبوية؛ منها صلح الحديبية الذي كان من بنوده:
أن من أسلم ثم ارتد إلى قريش لا يطالب به المسلمون، وأن من التحق بالمسلمين من المشركين استردوه. وفي الرجل الأعرابي الذي أسلم ثم طلب إقالته من شهادته فلم يفعل الرسول صلى الله عليه وسلم معَهُ شيئاً، فخرج من المدينة ولم يلحقه أذى، وإنما قال النبي صلى الله عليه وسلم «المدينة كالكير تنفي خبثها وينصعُ طيبها»، بالإضافة إلى حالات أخرى ارتدت على العهد النبوي ولم تُحَدَّ بهذا الحد”.
كما أشارت الوثيقة الجديدة بأن “قتال أبي بكر رضي الله عنه للمرتدين لم يكن إلا بالمعنى السياسي العام، ضد طائفة شقت عصا الطاعة على الإمام، وأرادت أن تفرق وحدة الجماعة، وتفسد فهم الدين بتعطيل أحد أركانه، ومعلوم أن الدين كان ولا يزال عمود الاستقرار الأساس في المجتمع. وما كثير من الفتن والحروب الدائرة اليوم إلا بسبب فساد تأويله وسوء استغلاله وتوظيفه”اهـ.
جدير بنا ها هنا التذكير بما سبق للمجلس نفسه أن قرره بطرح علمي وشرعي في “فتاوى الهيأة العلمية المكلفة بالإفتاء 2004 ـ 2012″، حيث قال:
“إن شرع الإسلام يدعو المسلم إلى الحفاظ على معتقَده وتدينه، وإلى التمسك بدين الإسلام وشرعه الرباني الحكيم، ويعتبر كونه مسلما بالأصالة من حيث انتسابه إلى والدين مسلمين أو أب مسلم التزاما تعاقديا واجتماعيا مع الأمة، فلا يسمح له شرع الإسلام بعد ذلك بالخروج عن دينه وتعاقده الاجتماعي، ولا يقبله منه بحال، ويعتبر خروجه منه ارتدادا عن الإسلام وكفرا به، تترتب عليه أحكام شرعية خاصة، ويقتضي دعوته للرجوع إلى دينه والثبات عليه، وإلا حبط عمله الصالح، وخسر الدنيا والآخرة، ووجب إقامة الحد عليه..
وفي ذلك يقول الله تعالى، محذرا من الارتداد وسوء عاقبة صاحبه في الدنيا والآخرة ﴿ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة، وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ سورة البقرة الآية 217، وقال سبحانه: ﴿ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين، بل الله فاعبدْ وكن من الشاكرين﴾ (الزُّمَر، الآيتان 65 و66). وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “من بدل دينه فاقتلوه”، وقال: “لا يحِلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه، المفارق للجماعة”)اهـ.
كما أوضح محمد يسف، الأمين العام للمجلس العلمي الأعلى، في تقديمه لوثيقة “سبيل العلماء” أنها “ليست وثيقة مذهبية رسمية للمجلس العلمي الأعلى، ولا مجرد سوانح فكرية شخصية محضة، وإنما هي صياغة من الصياغات الممكنة لجملة من التصورات المتداولة في أعمال علماء المجلس بخصوص أنظارهم في مختلف المحاور التي تناولتها هذه الوثيقة”.
هذا وقد أكد باحثون أن الفتوى الأولى للمجلس موافقة تماما لما ورد في كتب الفقه المالكي وغيره والتشريع الجنائي الشرعي، وقبل ذلك فهي متسقة مع نصوص الكتاب والسنة والإجماع؛ لذلك فمن الصعب ادعاء توافق القول الجديد مع النصوص السلفية والمفاهيم التراثية، كون هذا الفهم منسجم مع مفاهيم المدرسة العقلية المتأثرة بالثقافة الغربية.
كما أشار الباحثون إلى أن حكم الردة وإن لم يعمل به يجب أن تبقى المفاهيم مصانة ومحفوظة، كما أشاروا إلى أن إنكار حكم الردة لم يكن مطروحا في العالم الإسلامي حتى جاءت الإعلانات الغربية لحقوق الإنسان فأطبقت بسقفها على عقول وقناعات بعض الباحثين، فأنتجت مثل هاته الأقوال التي تناقض نصوص التشريع وتطبيقاته طيلة أربعة عشر قرنا.