أقبل رمضان بخيره وكراماته ينهل المؤمنون من معين فضله، ويتسابقون في نيل رتب العلا والسمو في احتساب أجره ورضوانه، ترنوا قلوبهم لقول باريهم سبحانه: “إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به”، وامتنانا من العباد لربهم يقبلون على القرآن قراءة وتدبرا وختما، فكان من عند الله الشهر الذي أنزل فيه القرآن “شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ”، ومن العباد شهر القرآن تدبرا وقراءة وعملا، ففي رمضان تظهر الآثار المباركة لكتاب الله على العباد حيث يقبلون على المساجد ويقلعون على الكثير من المعاصي والذنوب التي تكون ظاهرة في غير شهر رمضان، وما أجمل ليله لو اتقينا ثقافة متابعة قنوات الهوى والمتعة واللذة، وانسلخنا عن الاستهلاك الفني والإعلامي الماجن والفارغ، الذي يعزف على وتر الشهوات بتوظيف جسد المرأة العاري ويوسع من دائرة الفكاهة الممجوجة، واجتنبنا سلوكيات من قبيل التسكع والمخدرات والزنا..
رمضان شهر القرآن، غير أن رمضان هذا العام استقبله المغاربة بغير دور القرآن، وكانت عادة هذه الدور في شهر رمضان، أن تمتلئ بغير الطلبة النظاميين بعشرات بل ومئات من المؤمنين كل واحد منهم يحمل مصحفا من تلك المصاحف التي زينت بها رفوف هذه الدور، فتسمع قراءتهم كدوي النحل يحيون يومهم مع كتاب الله تعالى، وبين الفينة والأخرى ترى سجودا من أحدهم يدمي قلب الشيطان ويبكي عينه، فقد مرّ القارئ على آية سجود فسجد لربه مقرا بسجود وجهه للذي خلقه وشق سمعه وبصره فتبارك الله أحسن الخالقين، وإذا ما اقترب آذان العشاء تجد العديد من كبريات هذه الدور قد ملئت بمئات وفي بعضها بآلاف المصلين أقبلوا وقلوبهم ظمأى للاستماع لآي القرآن الكريم، تتلوه زمرة من خيرة الطلبة الذين وهبهم الله نعمة الصوت الحسن، فيشنفون بكلام الله جل في علاه الأسماع، ويدمعون الأعين، ويخشعون القلوب، ويصطف الناس بين ظهرانيهم صفوفا يباهي الله بهم ملائكته، يركعون ويسجدون ويكبرون ويسبحون ويدعون ربهم على قلب رجل واحد..
تلك الدور في رمضاننا هذا تشكو بثها وحزنها إلى ربها، فقد صارت فضاء فارغا، وبناء مهجورا، شرد مدرسوها وطلبتها، واحتضنت الشوارع المملوءة بالسلوكيات المنحرفة العديد من تلامذتها، يبكي آباؤهم حالهم وما آلت إليه أخلاقهم، ويحن الحريص منهم للَوْحِه وقلمه و”سمقه”، ولسان حاله يقول: كفاني لعبا، فأنا أريد معلمي ودار القرآن، أريد حفظ كتاب الله عز وجل، والعمل بما فيه، أريد وازعا دينيا أحسست به هناك، حيث لا صوارف عن الحق، ولا إكراهات لخوض مادية الحياة، ولا مكاره الشهوات، أريد أن أحفظ كتاب ربي، لأكون على نور في دربي..
لقد تعددت النتائج السلبية لإغلاق دور القرآن في المغرب، ويكفي الآثار السلوكية على بعض روادها الذين كانوا معروفين بانضباط سلوكهم وحسن أخلاقهم بسبب تمسكهم وتنافسهم في حفظ كلام المولى سبحانه، والذين تبدل حالهم بعدما طال بهم الأمد، لينساقوا وراء سلوكيات منحرفة يعرفها الشارع المغربي، والتي لطالما جاهدوا أنفسهم ليسلموا منها، ويكفي انتشار سلوكي التسكع والكلام البذيء في الشارع المغربي أن يكونا دافعين للعمل من أجل احتواء هذا التسيب الأخلاقي، وفتح المجال لهذه الدور المباركة التي ترشد روادها لخيري الدنيا والآخرة.
يحكي الطالب عبد الله-م: أنه بعد إغلاق دار القرآن التي كان يستفيد من برامجها، أصبح يعاني فراغا على العديد من المستويات، خصوصا مع انعدام المرافق الضرورية للتزود الديني والفكري، مثل المحضرة في المسجد، ومكتبة الحي، ودار الشباب ذات الأنشطة المفيدة، وهو ما أثر سلبا على مستواه التعليمي الذي كان جيدا أيام دار القرآن (ويشهد لهذا أن التلاميذ رواد دور القرآن يحصلون على رتب متفوقة في مدارسهم).
وجدير بالذكر في هذا المقام أن القضاء قد أنصف دار القرآن التابعة لجمعية الدعوة إلى القرآن والسنة بمراكش، كما أنصف من قبل دار القرآن التابعة لجمعية السبيل بالقنيطرة، ولا شك أنه سينصفها في باقي مدن المغرب إن شاء الله، لعدم وجود أي سبب يدفع إلى هذا الإغلاق، خصوصا وأن التهم الموجهة إلى هذه الدور المباركة لا أساس لها من الصحة، وحال هذه الدور يؤكد خلافها، فهي المؤسسات التي تحيي ليلها ونهارها في الدفاع عن ثوابت البلاد، وعلى رأس ذلك كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم، والدفاع عن الهوية والقيم الدينية للمغاربة مع التمسك بطاعة ولي أمرهم في المنشط والمكره.
لقد آن الأوان لمراجعة قرار إغلاق هذه المنارات العلمية التي ظلت سنين عديدة صرح العلم والمعرفة ونشر الوعي، ومحاربة كل فكر ظلامي يهدد أمننا واستقرارنا ووحدتنا.