لم يكن قرار الانقلابيين على الخلافة الإسلامية العثمانية عام في 1920 بإلغاء الخلافة واستبدالها بدولة علمانية هو القرار الوحيد بل صحبها عدة قرارات نالت من كل الشعائر الإسلامية، فمع منع رفع الآذان باللغة العربية ومحاولة طمس أي هوية عثمانية إسلامية لجأ أتاتورك في 1923 إلى إلغاء الطربوش كرداء للرأس للرجال وإلغاء وتجريم ارتداء المسلمات للحجاب الإسلامي في الحياة العامة، وأصدر قراراً يلزم الناس بارتداء الزي الأوروبي، وتم اعتبار العلمانية أمراً مقدسا يتهم ويجرم كل من يعاديه.
وطوال تسعين عاما ظل الحجاب الإسلامي نموذجا مكتملا للحرب على الهوية الإسلامية وظلت المسلمات في تركيا مهددات دوما في حجابهن ولا تستطيع واحدة منهم أن تعلن ارتداءه في الحياة العامة وخاصة داخل المؤسسات الحكومية.
وظلت مادة ارتداء الملابس مادة أساسية في الدساتير والقوانين التركية والتي كان آخرها المادة الخامسة من القانون الخاص بالملبس للموظفين العاملين في مؤسسات الدولة والصادر من مجلس الوزراء عام 1982 في أعقاب الانقلاب العسكري في عام 1980.
فعقب هذا الانقلاب الذي نفّذه الجنرال كنعان أيفرين في 1980، أقِر ذلك القانون بحظر دخول المحجبات إلى الجامعات والمدارس وقاعات المحاكم والإدارات الحكومية، وشمل أيضاً منع ارتداء الحجاب داخل المدارس الأهلية التي ينشئها الأئمة والخطباء.
فاضطر حينها عدد كبير من الفتيات لمغادرة البلاد استكمالا لتعليمهن مع التزامهن بحجابهن، وقدر عددهن بما يزيد عن 40.000 فتاة، بينما أصرّت فتيات أخريات على البقاء وتلقي التعليم داخل الجامعات التركية لكنهن اضطررن تحايلا على القرار لاعتمار القبعات أو وضع الشعر المستعار.
ولم تخالف حكومة من الحكومات التركية المتعاقبة تلك القرارات بل تكاتفت جميعها على حظر ارتداء الحجاب بالجامعات والمؤسسات الحكومية التزاما منهم بالمبادئ العلمانية التي تركها هادم الخلافة العثمانية مصطفى كمال أتاتورك.
ولم تكن هناك انفراجة حقيقية في حق المسلمات التركيات في ارتداء حجابهن في المؤسسات العامة إلا منذ أيام؛ حيث أصدر رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان حزمة قرارات للإصلاح السياسي تهدف إلى تعزيز الحريات والاستقلال، كان من بينها قرار برفع الحظر عن ارتداء الحجاب في المؤسسات العامة مع استثناء للسلك القضائي والعسكري.
واليوم يدخل القرار حيز التنفيذ الفعلي بعد نشره في الجريدة الرسمية، فقالت صحيفة ميلليت أن التعديل القانوني أجري وفقا للحزمة الديمقراطية التي أعلنها رئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان والمتعلقة بحرية النساء في ارتداء غطاء الرأس (الحجاب) في القطاع العام باستثناء العاملين في مؤسسات الأمن والجيش والقضاء.
وقال نائب رئيس الوزراء بكر بوزداغ في تغريدة على حسابه في تويتر: “أصبح القانون الذي يتدخّل رسمياً في حرية الملبس وأسلوب الحياة والذي شكّل مصدراً للتمييز والجور بين الناس، من التاريخ”.
ولاشك أن هذه الخطوة تعتبر خطوة كبيرة جدا ونقلة نوعية شديدة الأثر في صالح الحجاب الإسلامي في بلد كان يمثل قلب العالم الإسلامي باحتضانه للخلافة الإسلامية لعدة قرون وخاصة بعد اهتمام العديد من الصحف العربية والعالمية بدلالة القرار، وابرزوا جميعا أن عددا من التغطيات الصحفية العالمية عنونت افتتاحيتها تقديما للخبر بعنوان “أردوغان يهزم أتاتورك”.
ويخطئ من يظن أن هذه المعركة الطويلة الشاقة كانت معركة حول قطعة قماش ترتديها المرأة فوق رأسها أو لا ترتديها، لكنها تجسد الصراع الدائر في تركيا وفي غيرها من البلدان الإسلامية بين إسلاميتها الأصلية وعلمانيتها المزعومة المدعومة بالعسكر والمؤيدة غربيا والمفروضة عليها من أكثر من تسعين عاما أو ربما أكثر في كثير من الدول الإسلامية.
مركز التأصيل للدراسات والبحوث