كذبة العلمانية بين التصور المسطور وأزمة الواقع المنظور

لازلت أذكر يوم أن سمعت أو قرأت كلمة علمانية لأول مرة، أي خاطر ذهني قد انتابني؟ وأي مدلول كان له السبق في تصوري لكلمة علمانية وعلماني؟
لقد خلتها تنسيقية علمية تعنى بآخر الابتكارات والاختراعات التي وصل إليها العقل البشري، وعليه كنت بياء النسبية أنسب العلماني إلى رجل العلم الذي يتبع المنهج العلمي التجريبي في تفكيره وسلوكه، ويوما بعد يوم في مسيرة اشتداد العود وتخمر الفكرة، عرفت أن العلمانية هي باختزال شديد العفوية: حركة همّها منذ الاستهلال الأول وإلى حين الذهاب جفاء؛ مناهضة الدين ومحاربة الشريعة، وتضييق الخناق على الهوية والانتساب، والسعي كل السعي إلى إحداث عملية سلخ المسلمين عن مزية انتماءهم لهذا الدين العظيم.
والعلمانية وكما أنها غربية المنشأ وغريبة التصور، فهذا لم يمنع النابتين بين ظهرانينا إلى تبني عراها، بل إلى تبني عين الفكرة التي فتحت أمام هذه الحركة هامشا من الخواء والخلاء هناك، أدّى إلى كر على ما كان سيء السمعة في التاريخ الأوربي، والقضاء على الحكومة الثيوقراطية التي ارتبط كيانها في ذهن الرجل الأبيض بتجليات فظيعة، مثلث محاكم التفتيش سوطها الذي كان بيد رجل الدين على الصحيح دون أي مرتكز أو تبرير مستمد من شريعة الله.
إن هؤلاء النابتين بيننا نذروا حياتهم ورهنوا وجودهم بذلك الجهد الكفيل بخلق مناخ تسوده الفوبيا من الإسلام، ومن أي حكومة يكون برنامجها ولو على استحياء احتمال الحكم بما أنزل الله، وإخراج المسطور من الشريعة إلى فضاء المنظور من واقع خير أمة أخرجت للناس، بدعوى أنها حكومة ثيوقراطية من شأنها أن تعيد المجتمع الحداثي إلى ظلامية القرون الوسطى، يوم كانت طبقة الإكليروس مستعدة لإهدار دم علماء الدنيا وحرق مصدقيهم من الناس بتهمة الكفر والإلحاد ومخالفة المسلمات الكنسية التي استمدت عصمتها لا من الدين نفسه، بل كانت في الحقيقة عبارة عن تخرصات لقداسة البابا الذي كان يتمتع باسم كونه ممثل الله على ظهر الأرض؛ بالسيادة العليا والسلطان المطلق على معشر المسيحيين حكاما كانوا أو محكومين.
ورغم أن إسلامنا العظيم شريعة وشعيرة خبرا وطلبا لم ينتج في مساره التاريخي منذ البعثة وإلى اليوم بل وإلى أن تقوم الساعة، طبقة من رجال الدين تسيطر بما لها من قداسة على عقول الناس وتحجر على ملكاتهم وما هو مركوز في فطرهم السوية، بل وتصير وسيطا بين العبد وربه، ترضيتها من رضا الله وتغضيبها من غضب الله، تحتكر الغفران وبسخطها ينال الحرمان من وعد الله لأهل طاعته، بل على العكس من هذا كله نجد أن تركة محمد صلى الله عليه وسلم فينا كانت ولا تزال في محيط المحجة البيضاء، أهل ميراث يؤخذ من كلامهم ويرد، ويسلم إجماعهم على كون العصمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخبرتنا صحائف الوحي عن سيرة نبسه الشريف، وأنه كان لا ينطق عن الهوى، إنما كان نطقه محض وحي يوحى.
على الرغم من كل هذا وزيادة فرق، يأبى النابتون من بني الجلدة إلا أن يفتعلوا الضجة تلو الضجة ضد إسلامنا العظيم، بدعوى أنه ولما كانت الحكومة الدينية في أوربا قد ذاع شرها واستعظم فسادها وتكالب ظلمها، فكذلك لابد أن تكون كل حكومة تحكم بالدين، وهنا تأتي العلمانية واضعة بين يدي البشرية ترياق الحياة ووصفة النفاق الحداثي، الذي هو ضرورة إقصاء الدين عن السياسة، وإيجاد البديل الحضاري الذي ليس إلا حكومة مدنية لا تحكم بما أنزل الله، وتكفل حق التعدد والاختلاف والنقد والتحرر الفوضوي والإطلاق البهيمي لكل مكبوتات فجور النفس البشرية، والويل كل الويل لمن ناهض أو عارض، فلا منطقة أعراف بين العلمانية والحداثة والدولة المدنية..
وكيف لك أن تعارض فكرة قام أصحابها على الاستفادة من الديمقراطيات العريقة، التي يمكن أن نجمل حقيقتها المطلقة ومرتكزها التاريخي، في مسلمة مفادها أن أوربا عاشت الظلامية والبؤس والانغلاق ومحدودية الآفاق في الفترة التي سيطر فيها رجال الدين، ويوم أن نبذت الدين وحكومته، تحضرت وتقدمت وسيطرت، فهل يستطيع أحد كائنا من كان أن يكذب أو يجادل في هذه الحقيقة التاريخية التي من لازم طرحها التسليم بكون الدين سبب كل خدلان، ونبذه سبب كل فلاح وتقدم؟
وفي مثل هذا الجو المحموم والبيئة الفكرية الموبوءة، انتقلت العدوى إلى بيئتنا المعافاة، وتكفل بنشرها والدعوة إليها دون كلل أو ملل رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن حملتهم الشرسة ضد هذا الدين العظيم، الذي كانت تجربته وواقع حكمه وعدله وفضله لا يزال غض التاريخ، طري التجربة في بلاد الأندلس؛ تجربة لو التفت إليها معشر المغرورين لكانت كفيلة ومستفيضة في باب التبصرة بالحق والحقيقة، ولتبين لهؤلاء أن الذي أهلك الحرث والنسل في أوربا ليس الدين، وإنما شيء من المبتدعات التي أعطاها رجال الدين دون موجب شرعي صفة القداسة، فالحالة إذن كانت حتى في المسيحية المنسوخة منفكة بين ما جاء به عيسى عليه السلام، وما انعقدت عليه فعال ونوايا ما كان ينسج غزله في الدهاليز المظلمة للكنيسة، فيخرج إلى النور ليعيث فيه ظلما وفسادا وتضييقا.
ونحن نسأل ذلك الرجل العلماني الذي خلناه عالما، ونسبناه إلى الفكر والتجربة والإبداع عن المجالات العلمية الموكولة إلى الطاقة العقلية، والتي قام الإسلام يوما من أيام دولته بتحجير واسعها وخفض مرفوعاتها وإقصاء دورة تفاعلها، والوصاية على روادها باسم قال الله، قال رسوله، قال الصحابة أولوا الفضل والعرفان، وأنى له أن يجيب وهو الذي اكتشفنا بعد اشتداد عود وتخمر فكرة أنه مجرد إمعة تأثرت طينته بعوامل تعرية خارجية أدت إلى نسخ فكره ومسخ هويته، لم نظلمه رجما بالغيب، إنما كانت تجربة حكمه فينا وعلمانيته اللقيطة في دولة تربتنا عبارة عن فساد وإفساد الناظر في أرقام وحجم المال العام المهدور في أودية اللافضيلة، والمهروق في صناديق أبناك الدول ذات الديمقراطيات العريقة: يحرم منه دافع الضرائب والكادح آناء الليل وأطراف النهار، ويستفيد منه ذلك الرجل الأبيض الذي مافتئ يصدر لنا نصوص لصوصه، ويرسم عبر التدليس الحداثي طوباوية فكره وعدله وفضله، وهو الذي لا يتوانى إذا اشتكينا من قساوة وعذاب قنابله أن يشهر سبابة الفيتو في إشارة حاسمة إلى الإبقاء على عذابنا إلى تاريخ معلق بهلاك محقق.

عبد المغيث موحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *