اعتذار لمحبي العلامة الخرشي رحمه الله.. حماد القباج

اتصل بي أحد الفضلاء من الذين أكن لهم محبة وتقديرا، وعبر عن فرحه واغتباطه بما كتبت عن صاحب الفضيلة الشيخ عبد السلام الخرشي رحمه الله، وفي الوقت نفسه أبدى انقباضه من وصفي إياه بالأستاذ والأديب.

ثم بلغني أن فضلاء آخرين ذهبوا إلى أبعد من ذلك، ورأوا في هذا الوصف تنقصا وغمطا متعمدين! الحامل عليهما: حزبيات ضيقة!!
ونزولا عند إلحاح ذاك الفاضل المشار إليه؛ اضطررت إلى كتابة التوضيحات التالية:
التوضيح الأول:
لابد أن أؤكد بأنني في مستوى أدنى من أن أوفي الفقيد حقه، وأن كتابتي في الموضوع لم تخل من تطفل وجرأة..
والسبب في ذلك؛ أنني كنت تحت ضغطين قاهرين:
الأول: ضغط عاطفي يتمثل في تأثري بوفاة هذا العالم الجليل.
والثاني: ضغط ضمير؛ يتمثل في الشعور بضرورة التعجيل ببيان خسارة المغرب والعالم الإسلامي بوفاته.
والبدار في مثل هذا الموطن هو في حد ذاته تعبير عن منزلة الفقيد في أنفسنا، ولفت للانتباه إلى أنه الأولى بأن يسارع إلى التعزية فيه والتعبير عن عظم المصاب به.
ولم أستسغ أن نتأخر في أداء هذا الواجب؛ في الوقت الذي يبادر الغافلون إلى الإشادة بموتاهم من الممثلين والمغنيين وأمثالهم من المفرطين في الاستقامة والتدين.
ولم أكن أتحمل فكرة أن تكون أسرة الغناء أسرع في الإشادة بفقيدها الملحن عبد النبي! الجراري رحمه الله وغفر لنا وله؛ من بدارنا نحن إلى تعزية الأمة والتعبير عن حق هذا المصلح على أمته.
وازداد الضغط بأن كان يوم طبع أسبوعية السبيل هو يوم الجمعة، وما رجعنا من المقبرة إلا عند ظهر يوم الخميس؛ فكان نشر المقالة في ذلك العدد يقتضي أن تكون جاهزة قبل صلاة العشاء..
فهذا هو عذري الذي أقدمه لمن شعر بأنني غمطت هذا العالم حقه ولم أوفه مستحقه.
وأعوذ بالله أن أجازى بنقيض قصدي؛ حيث انقلبت محبتي لهذا العالم تقصيرا وانقلب جهدي مثلبة وحزبية:
فإن يك ذنبي يا قتيبة أنّني … بكيت امرءاً قد كان في المجد أوحدا
أبا كلّ مظلومٍ ومن لا أبا له … وغيثَ مَغِيباتٍ أطلن التّلدّدا
فشأنَك إنّ الله إن سؤتُ محسنٌ … إليّ فقد أبقى يزيدا ومَخْلدا

التوضيح الثاني: أنني لم أستوعب وجه التنقص في وصف الفقيد رحمه الله بالأديب والأستاذ؟!
وعلى من ارتأى هذا الرأي أن يعلم ما يلي:
– أنني لم أنشر المقالة حتى تجشمت مشقة عرضها على شيخين فاضلين أعرف منزلتهما في العلم والأدب ومعرفة قدر الفقيد؛ ذانك هما: الشيخ الحسن وجاج والشيخ عادل بن المحجوب رفوش.
فقد قرأت المقالة حرفا حرفا على الشيخ وجاج مباشرة، وقرأتها على الشيخ عادل بواسطة الهاتف، فلما أجازاها أجزتها.
– وصفُ الأديب أطلقته على الفقيد رحمه الله وأنا متشبع بأن هذا الوصف هو أعلى بكثير مما يفهمه منه البعض؛ وإن تعجب فعجب ممن رأى في وصف أستاذنا بالأديب: تنقصا؛ مع أن ياقوت الحموي صاحب كتاب معجم الأدباء؛ عرف هؤلاء في المقدمة بقوله: “قوم أخذ عنهم علم القرآن المجيد، والحديث المفيد، وهم أنهجوا طريق العربية، وأناروا سرجه المضيّة، وبصناعتهم تنال الإمارة، وببضاعتهم يستقيم أمر السلطان والوزارة، وبعلمهم يتمّ الإسلام، وباستنباطهم يعرف الحلال من الحرام”اهـ.
إذا محاسنيَ اللاتي أُدِلُّ بها … كانت عيوبي فقلْ لي كيف أعتذرُ
وقد أفشي سرا إذا قلت بأن معرفتي بكتاب “معجم الأدباء”؛ السبب فيها هو شيخي الخرشي الذي كان يشيد به كثيرا.
– أما وصف الأستاذ؛ فإنما يوصف به عند العلماء من بلغ درجة عالية من العلم باللغة والشريعة والتاريخ والثقافة.
وقد كنت أستحضر وأنا أصف الفقيد بذلك الوصف؛ قول الإمام مسلم لشيخه البخاري: “يا أستاذ الأستاذين”.
وقد أطلق العلماء هذا الوصف على كبار العلماء والمحدثين والفقهاء والأدباء؛ واشتهر به أكابرهم؛ كالبخاري وابن خزيمة وأبي إسحاق الإسفراييني وأبي علي الفارسي وأبي المعالي الجويني وأبي بكر الطرطوشي وأبي المظفر ابن السمعاني..
وهو لقب أطلق في عصرنا على كبار العلماء الجامعين بين العلم بالشريعة والأدب؛ من أمثال: محمود شاكر ومحمد راغب الطباخ ومحمد بهجة البيطار وعبد السلام هارون ومصطفى الزرقا وعبد الحميد محي الدين وعبد الصمد شرف الدين وسعيد الأفغاني وصلاح الدين المنجد..
فـ:
يَا صروف الدَّهْر حسبي … أي ذنب كَانَ ذنبي
عِلّة عَمّت وخصّت …. في حبيب ومحب

– ومع هذا؛ فإنني وصفت الفقيد رحمه الله في المقالة بما يلي:
“الشيخ الأديب والداعية الأريب؛ صاحب الفضيلة”.
“كان رحمة الله عليه؛ عالما جليلا وأديبا بليغا وواعظا مفوها”.

التوضيح الثالث:
لقد ساءني غاية أن حصل تضخيم لهذه المسألة على حساب ما ينبغي تضخيمه وتعظيم أمره؛ فقد نشرنا في العدد نفسه من الجريدة نبأ مهولا خطيرا؛ وهو أن الحكومة المغربية رفعت بطريقة سرية تحفظاتها على “المادة 16” من “اتفاقية القضاء على التمييز ضد المرأة” التي أصدرتها الأمم المتحدة في “كوبنهاكن” عام 1979.
وهذا والله أمر كان أقل منه يقض مضجع الأستاذ الخرشي رحمه الله، ولو بلغه وهو فيها جذع لهز له أركان كلية الآداب وإذاعة مراكش ومجالس الدعوة والأدب التي كان يصول فيها ويجول آمرا بالمعروف وناهيا عن المنكر..
وكنت في الحقيقة أود لو اتصل بي محبو الفقيد من أجل مراسلتي بمقالات يستنكرون فيها هذا الأمر ويبصرون الشعب المغربي بخطورته.
شكونا إليهم خراب العرا *** ق فعابوا علينا شحوم البقر
والحق يقال -وهذه نفثة مكلوم- أن بعض الفضلاء الذين كنا ننتظر منهم تشجيعنا في المسار الذي نحن فيه، ودعم جريدة السبيل؛ بلغنا عنهم أنهم يقاطعون الجريدة ويذكرونها عند طلبتهم بالذم والقدح..
والتقيت ببعضهم بعد صدورها مرات وكرات؛ فما سمعت منهم مرة واحدة: جزى الله الإخوان خيرا!
ولولا أن مشايخنا الفضلاء؛ ومنهم: الشيخ الخرشي رحمه الله؛ غمرونا بألفاظ التشجيع والثناء والدعاء لكان وقع مثل ذلك الموقف عظيما ولكان أثره وخيما؛ إذ كيف يعقل أن ينتمي الرجل إلى أسرة الدعوة ومنتديات العلم والقرآن، ثم يتعامل مع إخوانه في الميدان بهذا القدر من التنكر والجفاء والجفاف.
.. ولو أن يكلف نفسه عناء تحرير نقد علمي، أو زيارة القائمين على هذا الثغر ونصحهم وتوجيههم وإرشادهم.
فالله الله..

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *