يشهد المغرب حركة حثيثة لإنجاز إصلاحات مهمة على كافة المستويات.
من أهم وآخر فصولها؛ تقديم مشروع الجهوية الموسعة الذي أمر بإعداده الملك محمد السادس في السنة الماضية، والذي تم تتويجه بتعيين لجنة وطنية لإجراء تعديلات على الدستور؛ تهدف إلى المساعدة على خلق مناخ الجهوية، وتوسيع صلاحيات الحكومة والبرلمان، وضمان استقلالية القضاء، بما يرجى منه أن يحقق العدل ويضمن الحقوق في إطار الثوابت الوطنية ..
تأتي هذه الخطوات في خضم حركات شعبية تنادي هي بدورها بالتغيير وتحقيق العدالة، وما يستلزمه ذلك من إصلاحات سياسية وقضائية واجتماعية.
وإذا كان من الواضح أن ثمرات هذا التعديل رهينة بمدى الجدية والالتزام في تطبيق بنوده؛ فإننا نحب أن نلفت الانتباه إلى أن الإصلاح بوجه عام لن يتحقق إلا إذا روعي فيه إصلاح الفرد نفسه، باعتباره أداة الإصلاح ومحوره في الوقت ذاته.
وهذه حقيقة اتفقت عليها كل الفلسفات الإصلاحية الجادة؛ وإن اختلفت في مفهوم “إصلاح الفرد”، ووسائله.
فالإصلاح كالغيث في أهميته والحاجة إليه، والغيث لا ينبت كلأ ما لم يجد أرضا صالحة تنبت وتثمر ..
هكذا الإصلاح لا يتحقق إلا إذا قام على أرضية تقبله، فتنبت زرعه وتخرج شطأه؛ وهي “الإنسان الصالح”.
وباعتبارنا أمة مسلمة، وباعتبار الإسلام من ثوابت الدستور المغربي؛ فإن المرجعية الأساسية لتكوين “الإنسان الصالح” و”الدستور المصلح” هي شريعة الإسلام بأحكامها وآدابها، وبنصوصها وقواعدها التي تواكب التطور وتوجهه، وتنفتح على النافع وتدعو لاستثماره..
والفساد بكل أنواعه لن يرتفع بالشكل الكافي بمجرد إجراء تغييرات على المستوى السياسي والقانوني؛ بل هذا يشكل جزءا من الإصلاح إذا أحسن تدبيره؛ وبني على الحق والعدل وقاعدة {أداء الأمانات}؛ وهي عناصر الإصلاح السياسي كما بلورتها الشريعة الإسلامية التي ندعو إلى جعلها إطارا ومرجعا؛ موقنين بأنها الكفيلة بتحقيق الإصلاح الحقيقي للفرد والسياسة والقانون على حد سواء؛ لربانية مصدرها التي تجعلها مستوعبة لعناصر الإصلاح ومجالاته ومستلزماته، ومتجردة من التبعية لأهواء النفوس التي كثيرا ما تكون سببا لإجهاض عملية الإصلاح، وصيرورتها مجرد مطية لأهداف (إيديولوجية) أو أطماع سياسية أو ذاتية..
إن تعديل الدستور وتوسيع صلاحيات ممثلي الشعب لن ينتج دولة الحق والعدل ما لم يؤسس على أرضية صالحة تتمثل في مرجعية سليمة، وسياسيين شرفاء نزهاء يعدلون فيما وُلّوا، ويؤدون {الأمانات إلى أهلها}..
وإصلاح القضاء لن يتم إلا إذا اشتمل تكوين القضاة على التربية الشرعية التي تجعلهم يؤمنون بقول النبي صلى الله عليه وسلم: “القضاة ثلاثة؛ اثنان في النار وواحد في الجنة: رجل علم الحق فقضى به فهو في الجنة، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار، ورجل عرف الحق فجار في الحكم فهو في النار” [رواه الأربعة].
ويعملون بمقتضى ذلك الإيمان وما يستلزمه من تحري العدل، واجتناب بيع الذمة لضغوط سلطوية أو أطماع مادية ..
وإصلاح التعليم لا يمكن أن يتحقق ما لم يتحلَّ رجاله بوصف الأمانة، ويوقظوا في نفوسهم الضمير الحي وفي عقولهم الوعي الناضج اللذين يجعلانهم أمناء على قيم الأمة ومقوماتها..
وإصلاح الإدارة لن يتحقق ما لم يتشبع الموظفون بروح المسؤولية التي تقوم على أساس من الإيمان وخشية الله في السر والعلن ..
والعدل في توزيع الثروات والوظائف والفرص؛ لن يتم إلا إذا أسند إلى أهله من الأكفاء الأمناء..
إن التاريخ والواقع يؤكدان بأن أحوال الأمة لا تصلح إلا بالدين الذي أوحى الله تعالى به إلى نبيه صلى الله عليه وسلم، ليمثل المنطلق نحو الإصلاح الحقيقي والشامل..
وهذا ما عناه الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام؛ فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”.
فالعز والصلاح رهينان بمدى عملنا بالإسلام وتجسيدنا لأحكامه وآدابه؛ حكاما ومحكومين، على مستوى الفرد والأسرة والمجتمع؛ بكل مكوناته وفي كل مجالاته؛ من تعليم وقضاء وسياسة واقتصاد.
الإسلام هو الذي أفرز حكاما من أمثال أبي بكر الصديق رضي الله عنه الذي قال لشعبه: “قد وليت عليكم ولست بخيركم؛ فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم.
ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه”. [رواه ابن سعد]
ومن أمثال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه الذي قال لشعبه: “وايم الله؛ لا أعلم عند أحد منكم أكثر مما عندي، وما تبلغنا حاجة يتسع لها ما عندنا إلا سددناها، ولا أحد منكم إلا وددت أن يده مع يدي ولحمتي الذين يلونني، حتى يستوي عيشنا وعيشكم”. [حلية الأولياء].
والإسلام هو الذي أفرز سياسة العدل والمساواة التي طبقها عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والتي يؤخذ فيها الحق لصاحبه ولو كان كافرا.
والإسلام هو الذي أوجد ولاة من أمثال عمير بن سعيد الذي جعله عمر بن الخطاب واليه على حمص، فلما استدعاه بعد عام من توليته جاءه في حال رثة، فقال له عمر: “أأجدبت البلاد أم بلاد سوء؟” فقال: “ولِم يا أمير المؤمنين؟!، وقد جئتك بالدنيا أجُرّها بقرابها”، فقال له عمر: “وماذا أخذت من هذه الدنيا؟” فقال: “عكازة أتوكأ عليها، وأدفع بها عدوا إن لقيته، ومزود فيه الطعام والشراب”، فأرسل عمر من يتتبع الأمر فوجده كما قال، فأرسل له مالا فلم يلبث عنده حتى قسمه بين الفقراء والمساكين.
والإسلام هو الذي أوجد قضاء لا يحابي أحدا، ولو كان الخليفة الذي يتربع على هرم السلطة؛ وقد سُجن وعُذّب كثير من القضاة حين رفضوا الانصياع لأهواء الحكام وأصحاب النفوذ والأموال.
والإسلام هو الذي حفظ الحقوق ونشر الأمن الاجتماعي الذي جعل عمر بن الخطاب يقول: “لئن سلمني الله لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا” [رواه البخاري]
والإسلام هو الذي أوجد طبقة من الأغنياء يتفاعلون مع مأساة الضعفاء، ويبادرون إلى سد حاجاتهم؛ كما فعل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه حين رفض بيع ألف بعير جاءه من الشام محملا ببضائع كثيرة، وفضل أن يهبه لفقراء المدينة على أن يبيعه لتجارها، وقد أعطوه ضعف الربح مرتين!
والإسلام هو الذي أوجد نظاما اقتصاديا متكاملا يضمن تقليص الفوارق بين طبقات المجتمع؛ بعيدا عن الرأسمالية الجشعة التي تضخم ثروة القلة على حساب الكثرة البئيسة، والاشتراكية الشيوعية التي تسلط الدولة على جهود الأفراد.
والإسلام هو الذي حرر المرأة من قيود الظلم والاحتقار، وعدل بينها وبين الرجل في الحقوق، وسوّى بينهما في الكرامة والقيام بواجب الإصلاح:
{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة/71]
وأيضا؛ فإن التراجع عن الاعتزاز بالإسلام والعمل بأحكامه وتوجيهاته على مستوى الفرد والمجتمع، هو السبب الأصلي والأول لما عرفته الأمة من انتكاسات على كافة المستويات.
إن هذه القيم السامية والمثل العليا التي جاء بها الإسلام ليست حبيسة (تاريخانية) ولا (إقليمية)، بل هي قابلة لأن تجسد في كل زمان ومكان، في دولة المؤسسات كما في دولة الولايات، وفي الدولة العصرية والحديثة كما في غيرها ..
ومن هنا فإننا نهيب باللجنة التي تشرف على التعديلات الدستورية، وبالحركات الشبابية المطالبة بالتغيير، وبكل الفاعلين في هذا المنحى؛ أن يعتزوا بالإسلام ويستنيروا بشريعته العادلة وتوجيهاته السامية، حتى تكون تلك التعديلات مستجيبة لمطالب الشعب المغربي المسلم ومنسجمة مع الثابت الأول من ثوابت الدستور والمتمثل في “الإسلام دين الدولة”.