الرحمة المهداة -2- طارق برغاني

يُجمل لنا القرآن الكريم رسالة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، في كونها رحمة للعالمين كافة، بقوله تعالى: «قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ» الأعراف:158، فهذه الرسالة لا تفرق بين عربي وعجمي، بين أحمر وأسود، بين ذكر وأنثى، وإنما هي رسالة اصطبغت بصبغة الشمول والكونية، لأنها رسالة تامة كاملة، صالحة لكل زمان ومكان، مكملة لما سبقها من الشرائع والأحكام، مقرة لشريعة ماضية إلى يوم القيامة، يقول الله تعالى: «اَلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا» المائدة:3، فمن اتبعها فقد سلك مسلك الناجين، ومن أعرض عنها فقد خسر الخسران المبين.
إيثار الدعوة على زينة الدنيا:
ومن ذلك ما جاء من حديث عتبة مع النبي صلى الله عليه وسلم: «فقال له يا محمد أنت خير أم هاشم، أنت خير أم عبد المطلب، أنت خير أم عبد الله، فبم تشتم آلهتنا وتضلل آباءنا؟ فإن كنت إنما بك الرئاسة، عقدنا لك ألويتنا وكنت رأسنا ما بقيت، وإن كان بك الباءة، زوجناك عشر نسوة تختارهن من أي أبيات قريش شئت، وإن كان بك المال جمعنا لك من أموالنا ما تستغني به أنت وعقبك من بعدك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساكت لا يتكلم فلما فرغ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بسم الله الرحمن الرحيم {تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا} حتى بلغ {فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ}، فأمسك عتبة على فيه وأنشده الرحم ليكف» روح المعاني للألوسي وتفسير القرطبي وغيرهما.
الحلم والأناة:
وحديث الرجل الذي بال في المسجد شاهد على ذلك، فعن أنس بن مالك: «بينما نحن في المسجدِ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم إذ جاء أعرابيٌّ، فقام يبولُ في المسجدِ، فقال أصحابُ رسولِ الله صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم : مَهْ مَهْ، قال : قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم: «لا تُزْرِمُوه، دَعُوهُ» فتركوه حتى بال، ثم إن رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم دعاه فقال له: «إن هذه المساجدَ لا تَصْلُحُ لشيءٍ من هذا البولِ ولا القَذَرِ، إنما هي لِذِكرِ اللهِ عز وجل، والصلاةِ، وقِراءةِ القرآن، أو كما قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، قال فأمر رجلًا من القومِ، فجاء بدَلْو من ماءٍ، فشَنَّهُ عليه» مسلم:285.
الرفـق:
كان النبي صلى الله عليه وسلم أرق البشر قلبا، وأبهاهم صورة وأرفعهم وقارا وألينهم معاملة، عن عباد بن شرحبيل: «أصابَنا عامُ مَخمصةٍ، فأتيتُ المدينةَ، فأتيتُ حائطًا من حيطانِها فأخذتُ سُنبُلًا ففرَكْتُهُ وأَكَلتُهُ وجعلتُهُ في كسائي، فجاءَ صاحبُ الحائطِ فَضربَني وأخذَ ثَوبي، فأتيتُ النَّبيَّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ فأخبرتُهُ فقالَ للرَّجلِ: «ما أطعَمتَهُ إذ كانَ جائعًا أو ساغبًا ولا علَّمتَهُ إذ كانَ جاهلًا»، فأمرَهُ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ، فردَّ إليهِ ثوبَهُ وأمرَ لَهُ بوَسقٍ من طعامٍ أو نِصفِ وَسقٍ» صحيح ابن ماجة:1875.
صفاء القلب والروح:
وهذا اصطفاء من الله تعالى لرسله، وتكفُّلٌ منه سبحانه بتطهير قلوبهم وتزكية أرواحهم وتنقية نفوسهم، وهذا فضل منه تعالى على رسله وأصفيائه، يقول الله تعالى: «أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ» الشرح:1-4.
التواضع واللين:
وهو خلق مستمد من رحمة الله عز وجل، استطاع به النبي صلى الله عليه وسلم، تأليف قلوب المؤمنين حوله وجعلهم يضحون بالغالي والنفيس لنصرته والدفاع عنه، ويتحقق بوسائل منها العفو عنهم والاستغفار لهم ومشاورتهم في الأمر، يقول الله تعالى: «فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَو كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ» آل عمران: 159.
التخفيف والتيسير على الأمة:
وتتجلى رحمة النبي صلى الله عليه وسلم أيضا في رفع المشقة عن الأمة وتخفيف التكاليف عنها، فيما أمره الله تعالى بتبليغه في القرآن والسنة، يقول الله تعالى: «الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ» الأعراف:157، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا صلَّى أحدكم للناسِ فليُخَفِّفْ، فإنَّهُ منهمُ الضعيفُ والسقيمُ والكبيرُ، وإذا صلَّى أحدكم لنفسِهِ فليُطَوِّلْ ما شاءَ» البخاري: 703.
الشفاعة:
وهي شرف عظيم سيحظى به النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحساب، والناس في أحوج ما يكونون للظفر بها والدخول في مستحقيها، عن أنس بن مالك «..فَيَأْتُونَ مُحَمَّدًا -صلى الله عليه وسلم- فَيَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ! أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ وَخَاتَمُ الأَنْبِيَاءِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ، اشْفَعْ لَنَا إِلَى رَبِّكَ، أَلاَ تَرَى إِلَى مَا نَحْنُ فِيهِ؟ فَأَنْطَلِقُ فَآتِى تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّى عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ يَفْتَحُ اللَّهُ عَلَىَّ مِنْ مَحَامِدِهِ وَحُسْنِ الثَّنَاءِ عَلَيْهِ شَيْئًا لَمْ يَفْتَحْهُ عَلَى أَحَدٍ قَبْلِى، ثُمَّ يُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ ارْفَعْ رَأْسَكَ، سَلْ تُعْطَهْ، وَاشْفَعْ تُشَفَّعْ، فَأَرْفَعُ رَأْسِى، فَأَقُولُ: أُمَّتِى يَا رَبِّ، أُمَّتِى يَا رَبِّ، فَيُقَالُ: يَا مُحَمَّدُ أَدْخِلْ مِنْ أُمَّتِكَ مَنْ لاَ حِسَابَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْبَابِ الأَيْمَنِ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ وَهُمْ شُرَكَاءُ النَّاسِ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الأَبْوَابِ..» البخاري:4435.
الحكمة في التربية والتعليم:
ويكفينا فيه هذا الحديث عن معاوية بن الحكم السلمي قال: «بينا أنا أُصلِّي معَ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إذ عطَس رجلٌ منَ القومِ، فقلتُ: يرحمُك اللهُ! فرَماني القومُ بأبصارِهم، فقلتُ: واثُكلَ أُمِّياه! ما شأنُكم؟ تَنظُرونَ إليَّ، فجعَلوا يَضرِبونَ بأيديهم على أفخاذِهم، فلما رأيتُهم يُصَمِّتونَني، لكني سكَتُّ، فلما صلَّى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فبِأبي هو وأمِّي! ما رأيتُ مُعَلِّمًا قبلَه ولا بعدَه أحسنَ تَعليمًا منه، فواللهِ! ما كهَرَني ولا ضرَبَني ولا شتَمَني، قال: إنَّ هذه الصلاةَ لا يَصلُحُ فيها شيءٌ من كلامِ الناسِ، إنما هو التسبيحُ والتكبيرُ وقراءةُ القرآنِ،..» مسلم: 537.
الصدق والأمانة:
وذلك بشهادة قومه وعشيرته المؤمن منهم الكافر، فعن عبد الله بن عباس قال: «لما نزَلَتْ: وأنذر عشيرتك الأقربين صَعَدَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم على الصَّفا، فجَعَل يُنادي: يا بني فِهْرٍ، يا بني عَدِيٍّ، لبطونِ قريشٍ، حتى اجتمعوا، فجَعَلَ الرجلُ إذا لم يَسْتَطِعْ أن يَخْرُجَ أَرَسَلَ رسولًا؛ ليَنْظُرَ ما هو، فجاءَ أبو لهبٍ وقريشٌ، فقال: أَرَأَيْتَكم لو أَخْبَرْتُكم أن خيلًا بالوادي تريدُ أن تُغِيرَ عليكم أَكُنْتُم مُصَدِّقِيَّ؟ قالوا: نعم، ما جَرَّبْنَا عليك إلا صدقًا، قال: فإني نذيرٌ لكم بينَ يَدَيْ عذابٍ شديد..» البخاري: 4770.
ما هذه الإشارات إلا غيض من فيض ونزر يسير من سيرة مشرقة عطرة حافلة بالشمائل الفضيلة، مضيئة بالأخلاق العظيمة، وكتب السيرة حافلة بالمشاهد والمواقف والأنوار النبوية، فمحمد صلى الله عليه وسلم قدوتنا، ومحبته تكمن في الاقتداء به واتباع ما أمر به واجتناب ما نهى عنه.
اللهم ارزقنا حب نبيك واتباع سنته والاهتداء بهديه.
والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *