منزلة التمكين بين يقين السلف ووهم الخلف عبد المغيث موحد

صِدق العزم لا يُنال إلا بسبق اليقين وإصرار الإيمان، فمتى ما تحقق للأمة نصاب العزم الكفيل بتحقيق الإصلاح المطلوب والتصفية اللازمة، نالت منزلة التمكين والتربية ولا بد، وعلا شأنها بين الأمم، بل وتحقق لها الهامش الكوني الذي به تسير الدعوة إلى الله وإلى دينه، سيرا لا يحول بينها وبين الخلق حائل الطائرات المجلجلة والمدافع المدوية والجيوش الجرارة والنفوس الخبيثة المتوعدة، وكم هو مطلب نفيس تذوَّق لازمه سلفنا الصالح، ونالوا من حظ هذا اللازم المغنم الأوفى، واسْألِ العادِّين بعد هذا عن ذلك الاستقرار الإسلامي الذي عمّ جزيرة العرب، وعاشه سيد الخلق مع جيله الفريد جيل الصحابة رضوان الله عليهم، وكم تطلب ذلك من سفك دم، وقتل نفس، في قرابة ثلاثين غزوة وسرية ضد الذين أبوا أن يُساكنوا دعوة السلام وميثاق النجاة.

فإلى الذين ينبزون هذه الدعوة الشريفة ويرمون انتشارها الكاسح بأنه انتشار مهد له بريق الصارم المسلول، وأعانته سلطة السيف التي ساقت الناس إلى حظيرة الإسلام سوق الإكراه والعنوة وكذبوا، وقد تطلب هذا الاستقرار مع استكمال قيام صرحه الحصين من الأرواح المناوئة لعبدة الأوثان وأصحاب الهيكل المزعوم سبع مائة من القتلى في ثلاثة وعشرين سنة من الزمن النبوي الشريف، ولنرجع بعد هذا الإحصاء الرشيد وبعد وضع عدده في نحور المتربصين لنؤرخ في عزة وجلال، لتلك المرحلة النبيلة من تاريخنا التليد، حيث نبينا عليه الصلاة والسلام قد أوحي إليه، والبيئة يومها تموج جنباتها في انحطاط مادي وتسفل أخلاقي لا مثيل له..
قبائل تحركها نوازع الحيوان بامتياز، فهي تكر وتفر وتُغير وتقطع الطريق، وتتصعلك كلما جاعت أو خافت أو تحركت في ذواتها شهوات البغي والخنا، ديدنها معلقات تطول أبياتها في وصف الجعة والمرأة والحرب، أسواقها بورصات نخاسة تباع في مزادها الناجيات من الوأد بيع الأنعام، بل أقل في قوم أضل، يطوفون حول البيت العتيق حفاة عراة، صلاتهم مكاء وتصدية، قلوبهم متفلتة من عقال الإنابة، مخبتة للأوثان التي كثر تصنيعها حتى عجت بها بطحاء مكة.
وفي ظل هذا الفصام النكد تتسلل دعوة التوحيد بالسر مكابدة والإعلان مجاهدة إلى بيوت المستضعفين الأشراف، وتتكرر جلسات مدرسة الإيمان الأولى في دار الأرقم بن أبي الأرقم، ويتطاول صوت السوط، وتعلو لغة الكي والسحل والتعذيب والنكاية بجيل الغربة الأول، ووسط هذه اللجة الهوجاء تسير دعوة الصادق المصدوق سير القافلة وسط نباح الكلاب، وتمر مر ديمة النفع في عنان السماء، لا ينال من مشروعها سيد، ولا يقف أمام سبيلها حسب ولا نسب، ويضيق مشركو مكة بكلمة التوحيد ضيق المتصعد في السماء، فترمى أقلام المساومة، وتجرد سيوف الوعيد، وتتعالى شقشقة أهل الإقعاد، ولكن لا شيء من هذا أو ذاك استطاع أن يوقف هذا السير الكريم ليصلنا بالتواتر المحمود خبر هؤلاء الأسلاف، وحقيقة علو كعبهم في الإيمان واليقين، الذي نالوا به صدق العزم في أبهى تمثلاته، ليتوج هذا المجهود المبارك بولادة جيل الأخوة في الدين جيل المهاجرين والأنصار رواد المجتمع المدني الفاضل، الذي تكفل بنشر رسالة الإسلام العصماء.
وحري بنا أن ننبه إلى أن العود إلى هذا التراث الشريف، ليس المراد منه النهل الثقافي أو التعاطي المعرفي، إنما هو عود نبغي من خلاله الانتقال من علم اليقين إلى عين اليقين، في كون هذا الدين وقضية عزته وشهرته ويسر سيره لاحقا عن سابق ساده الضعف والمذلة والغربة والعسر، وهي أمور تطلب تجاوزها استشراف الوعد الصادق من الله ورسوله بحسن العاقبة وإشراقة الغد المنير، وهذا الاستشراف اليقيني هو ما ينقص اليوم جيل الصحوة ومحيط الأتباع من حوله، الذين عبثت بأذهانهم الآلة الإعلامية العالمية، فأغرقت الكل في يأس وقنوط، بل نجحت بفروعها المرئية والمسموعة والورقية في إخراج العباد من رَوْح الله.
وليس هذا الكلام من باب الرجم بالغيب، فله شواهد محسوسة في الأثير وعلى صفحات الورق الوثير، يغوص أهلها تحت الأرض إذا وقب الغاسق، ويعربدون فوقها متى أطل الشارق، ليجودوا علينا بالصور الخليعة التي من خلالها يمررون خطابهم الانهزامي، ويشرحون بالدليل الملموس حقيقة انسحاب بساط التمكين من تحت أقدام أهل الصيام والقيام، ويعللون بالشاهد المحسوس أن وعد الخلافة على منهاج النبوة هو مجرد أضغاث أحلام، ووقوع تأويلها هو من باب المستحيل الذي لا يمكن أن تقبله ولو بشراكة شكلية حداثة متسارعة مهرولة في منحى الفكر المادي المتغطرس والبهيمية الساقطة التي أثخنت جسد الأمة بجراح دامية باسم الحرية والنهضة والمساواة، وعليه فوظيفة الدعاة وحملة لواء الإرشاد وحبر الردود على أهل البغي باعتبار القلم أحد اللسانين كما قيل، وظيفة حراس الحدود هؤلاء هي إعادة صياغة الأسلوب الدعوي الذي يراعي الواقع المكي للأمة اليوم، ويستمد خطابه من مضمون الأمس المسكوك، في محاولة مخلصة منهم لبناء قواعد اليقين، وصياغة مراتب الإيمان في نفوس أبناء الأمة، لعل هذا النوع من الخطاب يفلح في كسر ذلك الطوق الحديدي، والقشرة السميكة التي عمد المستغربون إلى تغليف قلوب الخلق بأسمالها النتنة، فأغرقوهم في طوفان اليأس، ثم غمسوهم وهم سكارى في مستنقع الرذيلة والانبطاح المذل.
وإن أي مجهود مرشد يكون هدفه نفخ روح اليقين في هذه القلوب المريضة لكفيل برفع درجة الإيمان، درجة يكون معها مؤشر العزم الصادق في مرتبة رضية، تمهد الطريق إبتداءا إلى وقوع كر فاضل يستنزف القوة الفكرية الماكرة للخصوم والمناوئين، بيد أن هذا الكر يبقى عصيا إن هو جاء مجردا عن دعوة التوحيد التي ترد الناس ردا جميلا إلى تغيير وجهة الاحتماء بالخلق إلى الاعتصام برب الخلق، ومن التكلم باسم الذوات والأشخاص إلى أسلوب التخبير عن الله ورسوله، وهذا متى حصل ونجح الداعية في تشخيصه بإخلاص وتشبع بالمنهج السلفي القح، كان الخصم في مواجهة الأمة بدل الأتباع، وكان في مقارعة المنهج عوض الحزبية الضيقة، بل وكان في مواجهة من قرر أزلا وقال سبحانه وتعالى: {وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ} (يوسف 21)، وقال أيضا: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ} (القصص 68)، وقال أيضا بديع السموات والأرض: {وَإِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ} (البقرة 118).
وعلى هذا النحو والمنهاج لنا اليقين بزوال الشك وخروج المسلمين من دائرة اليأس والتذبذب، وتأبيد مشروع الهزيمة إلى فضاء اليقين ورحابة الإيمان وقوة العزم، الذي تتكسر على صفوانه الصلد شبهات الكافر وشهوات الفاجر، والله المستعان، وعليه التكلان فهو الأول والآخر والظاهر والباطن، وهو الحسيب ونعم الوكيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *