قبل أن نشرع في تبيان بعض الأسباب التي جرت أصحاب بدعة الجرح والتجريح إلى بدعتهم هذه، لا بد أن نعلم إخواننا القراء أنه قد فاتنا في المقالة الأولى التنبيه على أن الانشغال بما نحن بصدده من الردود على الناس وتتبع هفواتهم وأخطائهم ما هو بسبيلنا ولا من منهجنا؛ فليس إلينا ولسنا إليه، ونرى أن ذلك مخصوص بخاصة أهل العلم المشهود لهم بالإمامة في العلم والديانة، وليس لنا معشر من لا يزال في تلمس الطريق بهمة فاترة يصل أو لا يصل، وحسبنا الاشتغال بما تعينت علينا معرفته من الأحكام؛ والبكاء على ما اجترحناه من سيئات المعاصي والآثام، ويا ليتنا ننجو يوم القيامة رأسا لا لنا ولا علينا .
وعليه فلم نقصد بهذه الكلمات التشفي من أحد أو الانتصار للنفس بل القصد كل القصد هو الانتصار للحق والدفاع عن أهله من العلماء والدعاة المظلومين، وتبرئتهم من التهم الباطلة التي ألصقتها بهم هذه الفئة المشاغبة، فلم نحمل القلم -والله يشهد- حتى حصل موجب ذلك ودعت إليه داعيته .
ولهذا أرجو من إخواننا القراء إذا وجدوا شيئا من القسوة في هذه الكلمات -التي أختلس وأسرق شيئا من وقتي لكتابتها- أن يعذرونا، فما هي إلا حصيات صغيرة نخصف بها في وجوه هؤلاء المارقين من السنة بعدما أسرفوا في رمي العلماء والدعاة إلى الله بجلاميدهم المنكرة.
وإليك أيها القارئ بعض الأسباب التي جعلت هذه الفئة الباغية يطعنون في العلماء وأهل الفضل وكل من تشم منه رائحة الخير؛ ضاربين الصفح عن كل مجرم يعيث فسادا وإفسادا في البلاد طولا وعرضا، وهذا أول هذه الأسباب.
أولا: الجهل
الجهل صفة لازمة لهؤلاء المبتدعة لزوم الظل للشاخص، وليته الجهل مجرد الجهل، ولكنه جهل مركب تركيبا مزجيا استحكم في رؤوسهم فجعلها رؤوسا قاسية؛ مثلها كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا.
وهذه الجاهلية (الجهل) التي ابتلي بها أبناء هذه الشرذمة الباغية وشهدنا عليهم بها شهادة حق لا شهادة استماع فحسب؛ تكاد تكون الصفة الكاشفة لهذه الطائفة، وقد جمعتنا (أنا وبعض إخواننا الفضلاء) مع بعض أفراد من هؤلاء الأشقياء؛ وسهرنا معهم ليلتنا حتى أسفر الصبح وانبلج الإصباح، فو الله ما وجدنا إلا كما قال الحسن رحمه الله: “دخلنا فاغتممنا وخرجنا فلم نزدد إلا غما، اللهم إليك نشكو هذا الغثاء الذي كنا نتحدث عنه، إن أجبناهم لم يفقهوا وإن سكتنا عنهم وكلناهم إلى عي شديد” .
فالقوم غرقى حتى آذانهم في بحر من الجهل ظلماته بعضها فوق بعض؛ ويوم يدركهم الغرق ويوقنون أنهم مغرقون يومئذ يقولون: آمنا أنه لا إله إلا الذي أمر بتوقير أهل العلم واحترامهم.
ومن أكبر الأمارات على جهلهم هذا؛ عدم معرفتهم للخلاف المعتبر في بعض المسائل التي تعبدنا الله بها كالخلاف في قراءة المأموم للفاتحة وراء الإمام؛ والخلاف في قيام الجماعة الثانية بشروطها في مسجد المصر…، فهذه المسائل لا يرون فيها إلا قولا واحدا من خالفهم فيه فهو مبتدع، مع أن بعضهم يذهب في هذه المسائل خلاف ما يذهب البعض، وسبحان من جعل الفتنة بين المفتنين.
ولا يخفاك (أيها القارئ) ما لمعرفة الاختلاف من منزلة في العلم، فعن قتادة: “من لم يعرف الاختلاف لم يشم أنفه الفقه”، وعن هشام بن عبيد الله الرازي: “من لم يعرف اختلاف القراءة فليس بقارئ، ومن لم يعرف اختلاف الفقهاء فليس بفقيه”، وعن عطاء: “لا ينبغي لأحد أن يفتي الناس حتى يكون عالما باختلاف الناس؛ فإنه إن لم يكن كذلك رد من العلم ما هو أوثق من الذي في يديه”، وعن أيوب السختياني وابن عيينة: “أجسر الناس على الفتيا أقلهم علما باختلاف العلماء”، زاد أيوب: “وأمسك الناس عن الفتيا أعلمهم باختلاف العلماء”، وعن مالك: “لا تجوز الفتيا إلا لمن علم ما اختلف الناس فيه، قيل له: اختلاف أهل الرأي؟ قال: لا؛ اختلاف أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وعلم الناسخ والمنسوخ من القرآن ومن حديث الرسول الله صلى الله عليه وسلم”، وقال يحيى بن سلام: “لا ينبغي لمن لا يعرف الاختلاف أن يفتي، ولا يجوز لمن لا يعلم الأقاويل أن يقول هذا أحب إلي” وعن سعيد بن أبي عروبة: “من لم يسمع الاختلاف، فلا تعده عالما”، وعن قبيصة بن عقبة: “لا يفلح من لا يعرف اختلاف الناس” .
وبسبب هذا الجهل تراهم أتباع كل ناعق ينظرون بمنظار ضيق لا يكادون يرون به ما دون شراك نعالهم، فلا يحكمون على شيء بالقبول أو الرد والصحة أو الضعف إلا بمكالمة هاتفية لشيخ مغمور أو طالب مجهول في أقصى بقاع الدنيا لا يعرف ما يجري في بلداننا، أما قواعد العلم والاجتهاد في البحث والقراءة لمعرفة الأحكام أو سؤال أهل العلم من أبناء بلدنا فغير وارد في قاموسهم .
وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد
وهذا من أشد أنواع التقليد الذي يزعمون أنهم ينهون الناس عنه، وتعظيم للمشايخ واعتقاد العصمة فيهم وهم ينكرون على المتصوفة تعلقهم بساداتهم وقبور أوليائهم، فالقاعدة عندهم: معرفة الحق بالرجال لا معرفة الرجال بالحق؛ على خلاف المقرر عند أهل السنة السلفيين من معرفة الرجال بالحق لا العكس.
لكل داء دواء يستطب به إلا الحماقة أعيت من يداويها
وما اندفعوا إلى هذه البدعة بهذه الحماسة إلا عندما استصعبوا العلم وأيقنوا أنه لا يناله إلا الصابرون الواصلون ليلهم بنهارهم في الحفظ والمراجعة والبحث والتقميش و… وإلا قل لي بربك متى كان من أمر العلم أن يتصدى للجرح والتعديل من لا يعرف من العلم أي المتون تبتدئ بـ: “الكلام هو اللفظ…” مع أن صبيان المدارس يحفظون هذا المتن على ظهر قلب، أو من لا يعرف شروط لا إله إلا الله ونواقضها التي سيسأل عنها في قبره وأمام الله تعالى ، وقد قيل إذا أراد الله أن يهلك نملة ركب لها جناحين.
والغريب في أمر هؤلاء الجهلة أن الواحد منهم ما يزال في ألوان من المعاصي والموبقات فإذا دخل مع القوم في نحلتهم لا تكاد تمر عليه بعض الأيام حتى يخرج علامة نحريرا في علم الجرح والتجريح وفري أعراض المسلمين وأكل لحومهم، ويعد نفسه من طبقة يحيى بن معين وأحمد بن حنبل الذين حفظ الله بهم هذا الدين، فما أشبه القوم بالذي سقط من أعلى نخلة فصادف بئرا فتردى فيها، نعوذ بالله من الخسران.
ولقد أتى الوادي فطم على القري فتصدر القوم مجالس التدريس وإرشاد الناس بغير علم وإنها لإحدى الكبر.
تصدر للتدريس كل مهوس بليد تسمى بالفقيه المدرس
فحق لأهل العلم أن يتمثلـوا ببيت قديم شاع في كل مجلس
لقد هزلت حتى بدا من هزالها كلاها وحتى سامها كل مفلس
والغريب أن بعض العوام المغرر بهم يجلسون إليهم ويستمعون إليهم، ولعلهم معذورون في ذلك لأنهم يغترون بالمظاهر والملابس وصدق من قال:
فلو لبس الحمار ثياب خز لقال الناس يا لك من حمار
ويا لمصيبة نشكوها إلى الله، متى كان العلم بطول الأردان، أو إرخاء الذوائب كذنب الأتان، أو الهذر باللسان، لكن من الناس من هو شيطان، طمره الله في صورة إنسان .
وآفة الجهل هذه لم يسلم منها حتى كبراؤهم ممن يلقبونهم بكبار العلماء الذين يستفتونهم عبر الهاتف، فقد اتفق لي يوما أن تصفحت كتابا لواحد من أكابرهم هؤلاء ، فوجدته كتب بيده في صورة خطية لإذنه بطبع الكتاب: “..حيث أن تعليقاته مؤيدة” فوظف حيث التي تأتي للظرفية للتعليل، مع فتح همز إن من غير موجب؛ ومعلوم أن هذا كله لا يجوز إلا في لغة بني الجرنان التي ابتلينا بها في آخر الزمان؛ ومثل هذه الأخطاء لا يقع فيها طلاب الألفية بله العلماء المتخصصين في الجرح والتعديل، وهذا الكتاب مملوء بالأخطاء، حسنا الظن بصاحبه فاعتبرناها مطبعية.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.