ذمّ التكفير من غير موجب من خلال بيان مفهوم مصطلح “أهل التوحيد”  في كتاب الإبانة لأبي الحسن الأشعري (الحلقة1) د. عمر خويا

إنّ الكشف عن مفهوم مصطلح “أهل التوحيد” في كتاب الإبانة عن أصول الديانة من شأنه أن يُجليَ عن مصطلح التكفير ما تلبّس به من فهوم ضخّمت من حجمه، وهوّنت من أمره حتى صار في متناول الخبير وغير الخبير بأمور الدين، فأصبح تهمة رخيصة تُسفك بها الدماء البريئة وتزهق بها الأرواح الطاهرة.

والحقيقة أنّه كلما حصل الإفراط في التكفير فالتّفريط في مقابله وهو الحكم بالانتماء إلى جماعة المسلمين حاصل. والإفراط والتفريط كلاهما ليسا من دين الوسطية في شيء.

ورد لفظ التوحيد في كتاب الإبانة عن أصول الديانة للإمام أبي الحسن الأشعري البصري في ثمانية مواضع هي:

الأولـ قال في مقدمة كتابه:«الحمد لله الواحد الأحد، العزيز الماجد، المتفرد بالتوحيد، والمنفرد بالتمجيد»[i].

الثاني ـ «وندين بأن لا ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا، إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، ونرجو الجنة للمذنبين، ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين، أجارنا الله منها بشفاعة سيدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم»[ii] .

الثالث والرابع والخامس ـ قال وهو يستحضر أدلة على أن كلام الله عز وجل غير مخلوق: «دليل آخر: وقد قال الله تعالى: «شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ» (آل عمران:18) ولا بد أن يكون شهد بهذه الشهادة، وسمعها من نفسه؛ لأنه إن كان سمعها من مخلوق فليست شهادة له، وإذا كانت شهادة له وقد شهد بها فلا يخلو أن يكون شهد بها قبل كون المخلوقات؛ أو بعد كون المخلوقات.

فإن كان شهد بها بعد كون المخلوقات؛ فلم يسبق شهادته لنفسه بآلهية الخلق، وكيف يكون ذلك كذلك؟ وهذا يوجب أن التوحيد لم يكن يشهد به شاهد قبل الخلق، ولو استحالت الشهادة بالوحدانية قبل كون الخلق لاستحال إثبات التوحيد ووجوده، وأن يكون واحدا قبل الخلق؛ لأن ما يستحيل الشهادة عليه فمستحيل.

وإن كانت شهادته لنفسه قبل الخلق بالتوحيد فقد بطل أن يكون كلام الله تعالى مخلوقا؛ لأن كلام الله شهادته»[iii].

السادس ـ «قالت الجهمية: إن الله لا علم له ولا قدرة، ولا سمع له ولا بصر، وإنما قصدوا إلى تعطيل التوحيد والتكذيب بأسماء الله تعالى، فأعطوا ذلك له لفظا ولم يحصلوا قولهم في المعنى، ولولا أنهم خافوا السيف لأفصحوا بأن الله غير سميع ولا بصير ولا عالم، ولكن خوف السيف منعهم من إظهار زندقتهم»[iv].

السابع والثامن ـ «وقيل لهم: كيف تكون الصدور مشروحة للإيمان وهي ضيقة حرجة مختوم عليها، وكيف يجتمع الفعل الذي قال الله عز وجل: “إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ” (محمد:25) مع الشرح، والضيق مع السعة، والهدى مع الضلال، إن كان هذا جاز أن يجتمع التوحيد والإلحاد الذي هو ضد التوحيد، والكفر والإيمان معا في قلب واحد، وإن لم يجز هذا لم يجز ما قلتموه»[v] .

إن تحديد الهدف من هذا البحث له علاقة بالإشكال الذي تناوله. والإشكال هو علاقة مصطلح “أهل التوحيد” في “الإبانة” بمسألة التكفير. وليس هذا محل تفصيل القول في مفهوم التوحيد لذاته وفي سياقاته من خلال كتاب الإبانة، لأن الحديث فيه سيطول ويتشعب، وإنما سنتناول منه ما يعيننا على فصل القول في ضميمة “أهل التوحيد” فقط.

أما الهدف من الدّراسة من خلال العنوان، فهو بيان مفهوم مصطلح “أهل التوحيد” عند أبي الحسن الأشعري في كتابه، وبيان صلته القوية بقضية التكفير. ونحن في أشدّ الحاجة إلى كشف ما لحق بهذه القضية اليوم من تحريف، لعلنا نسهم في حقن دماء المسلمين وفي تجديد الفهم لجانب مهم من جوانب الدّين الحنيف.

وبخصوص المركّب اللفظي قال أبو الحسن: «وندين بأن لا ننزل أحدا من أهل التوحيد والمتمسكين بالإيمان جنة ولا نارا إلا من شهد له رسول الله صلى الله عليه و سلم بالجنة. ونرجو الجنة للمذنبين ونخاف عليهم أن يكونوا بالنار معذبين، أجارنا الله منها بشفاعة سيدنا وحبيبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم». قال الإمام هذا الكلام بعد عرضه لقول أهل الزيغ والبدع من الفرق الكلامية في بعض المسائل العقدية، وقاله وهو يُبين اعتقاد أهل الحق والسنة في جملة المسائل التي اختلف حولها المتكلمون في باب العقيدة.

———————————–

[i]– الأشعري، أبو الحسن علي بن إسماعيل.الإبانة عن أصول الديانة، تحقيق وتقديم وتعليق د. فوقية حسين محمود، القاهرة: دار الأنصار، الطبعة الأولى، 1397ﻫ/1977م،المجلد الثاني، ص7.

[ii]– الإبانة، المرجع نفسه،المجلد الثاني، ص27.

[iii]– الإبانة، المرجع نفسه، المجلد الثاني، ص74.

[iv]– الإبانة، المرجع نفسه، المجلد الثاني، ص123.

[v]– الإبانة، المرجع نفسه، المجلد الثاني، ص199.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *