الأعراض من الصيانة إلى الإهانة ذ. أحمد اللويزة

لقد ضلت الأعراض إلى وقت قريب في منأى عن سهام الانتهاك وقضية لا يُتنازل عنها مهما كان الثمن، يضحى بالنفس والمال وكل ممتلكات المرء من أجل أن يبقى العرض بعيدا عن التدنيس والإهانة مكنونا مصونا؛ بحيث إذا ذكر الرجل العربي ذكر العرض والشرف كعنوان بارز على حقيقة هذا الوصف “الرجولة”، فدونه يهون كل شيء، إذ كان بإمكان الرجل العربي أن يتنازل عن كل شيء إلا العرض فهو عنده خط أحمر، وحد لا ينبغي تجاوزه ومن تجاوزه ضرب عنقه بالسيف غير مصفح كما قال سعد.
وإن سر العروبة التي زادها الإسلام شرفا ومجدا يكمن في هذا الجانب بالذات ومن أجل الحفاظ على الشرف وتجنب العار المحتمل كان العرب في الجاهلية يدفنون بناتهم حيات ويعتبرونهم نذير شؤم {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ}، فيقتلوهن حتى لا تسقطن في أيدي من يستبيح شرفهن إن وقعت حروب بين القبائل، وإن كان القصد النبيل لا يبرره انحراف السبيل.
ولسمو مكانة الشرف عند العرب كانوا يصطحبون نسائهم في الحروب لإذكاء حمية القتال في نفوسهم ومنعهم من الفر بعد أن يروا أعراضهم أمامهم قد يلحقها العار إن فروا من ساحة القتال فتكون عونا لهم على الاستبسال حتى النصر فيسلم العرض، أو الموت ولا لوم بعد ذلك؛ فمع الموت زال الإحساس الذي فقده كثير من الأحياء في هذا الزمن الرديء وإن كنا: نعيب زماننا والعيب فينا وما لزماننا عيب سوانا.
مكانة العرض في نفوس القوم تستنير صورها بشكل كبير مع مجيء الإسلام، والحرص عليه نقيا طاهرا دونه النحور والنفوس، هو ما جعل عويمر العجلاني وهلال بن أمية يسألان النبي صلى الله عليه وسلم عمن لقي مع امرأته رجلا أيقتله فيقتل به لأنه لا يقدر أن يسكت عن غيظ، ويقول سعد “لو رأيت رجلا مع امرأتي لضربته بالسيف عير مصفح” فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: “أتعجبون من غيرة سعد فوالله لأنا أغير منه، والله عز وجل أغير مني، ومن أجل غيرة الله حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن” أخرجه الشيخان.
صيانة العرض وتكريمه والشعور بالعار إذا لحقه مكروه وتحرك عزة النفس انتقاما لجانبه المعظم هي التي كانت سبب في جلاء اليهود من المدينة لما استطالوا على عرض مسلمة، ومن أجله صير المعتصم الخليفة العباسي جيشا عرمرما للثأر لعرض مؤمنة استغاثت به عن بعد فما نام حتى أعاد لها كرامتها.
لقد تربص المنافقون بالإسلام وبرسوله صلى الله عليه وسلم وحاولوا جاهدين بكل السبل الخسيسة النيل من الإسلام ورسول الإسلام، وقد وجدوها فرصة سانحة أن يأتوه من أخطر الأبواب نظرا لما يترتب عليه من تأثير في شخصية النبي الكريم وشرعه، فطعنوا في عرضه الشريف صلى الله عليه وسلم واتهموا الصديقة بنت الصديق الطاهرة المطهرة بالزنا، وكان لهم ما أرادوا بما أحدثوه من ضجة صار بذكرها الركبان وطار بها المنافقون والأعداء كل مطار، ووقعت فتنة عظيمة حتى أنهاها الوحي بتبرئة عرض الصادق المصدوق وفضح المنافقين الذين لا هم لهم إلا بث الفاحشة ونشرها بين المسلمين بحب وعشق، فلقد أتوا من باب العرض لأن طعنه يصيب الأبي الشهم في مقتل ولا يحرك في الشقي التافه قيد أنملة.
أخبار الماضي الذي يكرهه الحداثيون تثلج الصدر، لكن هذا الصدر صار ضيقا حرجا تتوهج فيه نار الهم والحزن بسبب تبدل القيم وتطور الحياة وما تعيشه الأمة اليوم من تحول في المفاهيم والتصورات، وصار ذاك المصون مهانا تلطخه أيدي العابثين، وتتفرج على إهانته أعين الخائنين، وتستغني بتدنيسه زمرة الفاسدين عديمي الضمير فاقدي الشخصية ميتي النفوس، لا تتحرك فيهم شعرة العروبة ولا عزة الدين ولا حمية الغيرة، فقد فقدوا كل ذلك على حين غرة واستلذوا بالمال والثروة الملطخة بدم العرض، وتمادوا في الإفساد واستقطاب أكبر عدد من الأعراض القابلة للبيع والشراء، وتواطأ الآباء والأزواج والإخوان والأبناء والمجتمع حتى صارت كرامة الأمة في الحضيض وصار يخيل للآخرين أن الوطن ماخور مشرع الأبواب، ولا يمشي على أرضه إلا ديوثون ومخانيث وبائعات للشرف وذلك بسبب سفيرات فوق العادة؛ اللواتي يعلم بأمرهن المسؤولون على قيم المجتمع، ويتواطؤ معهم بعض من هانت عليه نفسه وفقد الإحساس بكثرة المساس ولا تهمه سمعة الوطن ولا أهله ولكن:
من يهن يسهل الهوان عليه ما لجرح بميت إيلام
لقد أضحى العرض جريحا طريح الأرض تطؤه أقدام الذئاب وتخنقه بأنيابها والراعي مشغول بنايِه مزهو برنته، بل أقبح من ذلك ما يملأ القلب أسى والحلق شجى أن تجد أولياء الأمور يشجعون من ولاهم الله أمرهن على التنقيص من أعراضهن وجعلها عرضة للذباب يسقط عليها تساقط الفراش، وصارت بنات المسلمين كأعمدة الكهرباء أو حيطان خالية يتكئ عليها البطالون ومن ليس لهم همة إلا تتبع هذه وتلك، مما يقتل الغيرة في قلوبهم حتى على أقرب الناس إليهم، ويتنازل الرجل لامرأته المتهمة بالخيانة ويدافع عن ابنته التي تخون الأمانة ويترضى عنها حين تصله منها الحوالة من بلاد العرب والعجم، ولا يخفى عليه مصدر ذلك المال لكنه لا يحرك ساكنا ولا يتكلم، ويأخذ الأخ نصيبه غير منقوص شراء للذمم وقتلا للنفوس والقلوب التي ألفت الفاحشة وتطبعت مع المنكر.
ما أحوج العرض اليوم إلى نفس شريفة أبية لا ترضى الذلة والمهانة، وما أحوجها إلى شجاعة عربية تميز بها من كانوا يعبدون الأحجار والأصنام وافتقدها من يشهدون لله بالوحدانية ولمحمد صلى الله عليه وسلم بالرسالة، لقد حان الوقت ليقول الغيورون كفى، ويتحرك المسئولون ذووا الضمائر الحية ليوقفوا هذا العبث وليأخذوا على يد كل مستهتر بالقيم ويستردوا العرض السليب من أيد المفسدين ويحيطوه بسياج من التوقير والاحترام، ولن يتأتى ذلك بالأماني ولكن بالعمل الجاد بدء من التربية والتعليم والإعلام وهلم جرا، غير أن السفينة تسير على غير هدي وتفقد البوصلة في انحراف خطير الله أعلم بنهايته، والإرهاصات بادية للعيان تحتاج فقط صحوة ضمير لإيقاف هذا السيل الجارف، سلمت يا وطن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *