إقصاء الشريعة الإسلامية واستمرار الذل والهوان إبراهيم الطالب

يخطئ الكثير من الناس عندما يحصر سبب ما يعيشه المسلمون من ذل وهوان وتخلف في هيمنة الغرب وتسلط الأنظمة الدولية القوية على مقدرات البلاد، وفي التبعية الاقتصادية، وتفشي الأمية وضعف الأنظمة الحاكمة وغير ذلك من المظاهر التي يمكن أن نعتبرها مجرد آثار للداء الأصلي المتمثل في نبذ تطبيق الشريعة الإسلامية، وتبني النظم العلمانية التي أنتجت ضعف وضياع الأمة، وتخاذل أبنائها عن نصرة قضاياها.
فالأمة مرت عليها فترات عانت خلالها من الوهن والتخلف بصورة تماثل أو تفوق ما تعيشه في الوقت الحاضر، لكن الفرق بين اليوم والأمس يكمن في تآكل قوة الشعوب: قوة العقيدة والاعتزاز بالهوية والدين، قوة التلاحم المبني على الإيمان بالله الذي يحث المؤمن على أن يكون قويا عزيزا بدينه، ولا يهن ولا يفشل مهما رأى حوله من صنوف الاستضعاف ومهما اشتدت قبضة عدوه على عنقه، الشيء الذي كان يضمن لكل قائد مؤمن مخلص لدينه وأمته وسائل النهوض بالبلاد واسترداد ما ضيعه السابقون في مرحلة الضعف أو التفرق.
فعلى مَرِّ التاريخ عرفت الأمة أحوالا وأهوالا أيقن أعداؤها أنها لن تقوم لها قائمة بعدها، لكن يقينهم كان كل مرة ينقلب إلى شك وخيبة.
ضعف الدول وقوة الشعوب
فعندما نسمع من فم التاريخ أن الحجر الأسود قد فارق الكعبة وخرج من المسجد الحرام لمدة اثنتين وعشرين سنة، (نهبه القرامطة من سنة 317 إلى 339هـ)، نتساءل أين كانت دولة الإسلام لمدة 22 سنة؟
وعندما نقرأ على صفحات التاريخ أن المسجد الأقصى مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأولى القبلتين قد بقي تحت يد الصليبيين مدة تسعين سنة كاملة (من سنة 492 هـ/1099م إلى سنة 583هـ/1187م) دنسوه خلالها بأبشع ما أمكنهم، حيث قاموا بتحويل قِسم منه إلى كنيسة بينما اتخذوا القسم الآخر مساكن لفرسان الهيكل، وأمعنوا في انتهاكهم لحرمة المسجد الأقصى باتخاذهم الأروقة الواقعة أسفل المسجد إسطبلات لخيولهم، وأطلق عليها منذ ذلك العهد اسم “إسطبلات سليمان”.
عندما نقرأ مثل هذه الحوادث التاريخية المؤلمة تقفز الأسئلة إلى أذهاننا تباعا دون توقف:
أين كانت دولة الإسلام؟
وأين كانت أمة الإسلام؟
وكيف كانت تستعيد عافيتها وقوتها بعد أن يستشري الضعف في جسدها لمدة ليست بالقصيرة؟
إن السر في ذلك يكمن بالخصوص في أن الضعف لم يكن في الشعوب بل كان في الغالب في الحكومات والدول، حيث قضت سُنَّةُ مالك الملك سبحانه أن يؤتي الملك من يشاء وينزعه ممن يشاء، ويذل من يشاء ويعز من يشاء، فكان شأن الدول التي تعاقبت على الحكم في بلاد المسلمين تبعا لذلك، ما إن تضعف دولة وتبتعد عن تطبيق أوامر الله عز وجل حتى تتهاوى، وتحل مكانها دولة أخرى يصيبها ما أصاب الأولى من الضعف والهوان إلى أن كانت آخر هذه الدول دولة الخلافة الإسلامية العثمانية التي دامت أكثر من 600 سنة.
إلا أن الدارس لتلك الدول يلاحظ أن القاسم المشترك بين نظمها أنها كانت تبني أسسها وقوانينها على شريعة الإسلام.
هذا الأمر -أي اتخاذ الإسلام أساسا للحكم- بالإضافة إلى كونه أمرا دينيا كان من أهم العوامل التي تسهل على الدولة الفتية استجماع قواها بكل سرعة مادام الموحد الأهم بينها وبين رعاياها هو الإسلام.
فكيف استطاع الغرب أن يقصي الإسلام من الحكم ويمكن للعلمانية؟

العلمانية أفتك أسلحة أعداء الأمة
بدأ مخطط تنحية الحكم بشريعة الإسلام منذ قرون من الزمن، عمل الغرب خلالها على إخضاع المجتمعات الإسلامية للدرس والتحليل وجمع كل المعلومات مهما كانت حقيرة عن كل شيء في الدول والمجتمعات الإسلامية شعوبا وأعراقا، فأرسِلت جيوش المستشرقين ابتداء من القرن السادس عشر إلى غاية مطلع القرن العشرين تجوب كل أقطار دولة الإسلام شرقا وغربا، شمالا وجنوبا تدرس وتنقب وتجمع المعلومات والكتب والمخطوطات، فأعدت البحوث والدراسات حول القرآن والسنة والسيرة والتاريخ الإسلامي والحكم والأدب والعمران..، فأعاد المستشرقون إحياء كل ما من شأنه أن يثير الشكوك لدى المسلمين حول تاريخهم ودينهم، وذلك لإضعاف الارتباط بالدين والهوية، فاستطاعوا أن يدخلوا تحت غطاء البحث والدراسة إلى الدول الإسلامية وينشئوا بها مدارس وجامعات ومعاهد ليلقنوا لأبناء المسلمين ما أنتجوه من شبه وما اختلقوه من أكاذيب، وبالفعل صارت تلك الشبه والأكاذيب لدى العلمانيين في البلاد الإسلامية من القطعيات التي لا يدخلها الشك ولا تتأثر بالنقد.
وقد تجلى استثمار ما جمعوه من معلومات وما وصلوا إليه من نتائج وما أبدعوه من أسلحة ثقافية وفكرية في تكوين نخبة من بين أبناء المسلمين الذين كانت ترسلهم دولهم كي يدرسوا ما عند الغرب من تقنيات وعلوم حربية حتى ينهضوا بأمتهم، فكان يتكلف بتكوينهم جملة من دهاقنة المستشرقين يعدونهم إعدادا محكما ليَرجعوا إلى بلدانهم دون أي تكوين وبالمقابل محملين بثقافة الغرب في اللباس والأكل والرقص، متشبعين بفكر العلمانية السائد آنذاك في أوربا وأمريكا، فكانوا الأدوات العَمَلية التي مكنت للعلمانية في الدول الإسلامية والتي خاض بها الغرب حربه مع المسلمين خلال المدة التي فرض عليهم فيها نظم الانتداب والحماية.
ويمكن أن نستشف ذلك بوضوح من خلال:
التأثيرعلى مستوى السياسة والحكم
فقد عملوا على قطع الصلة بين المسلمين وحكامهم بفرض القوانين الوضعية (العلمانية) كأساس للحكم وإقصاء الشريعة الإسلامية.
وقد تجلى ذلك من خلال إجبار الدول الإسلامية على فصل الدين عن السياسة وإقصائه من أن يلعب دورا في تنظيم الحياة العامة.
إن أهم الأفكار العلمانية الخادمة للمخططات الغربية والمضعفة للدول الإسلامية تكمن في قتل روح الولاء بين المسلمين ومحاربة البراء من أعداء الأمة ولو كانوا غزاة محاربين، وبهذا أصبح من بين المسلمين من يرفع عقيرته وينادي إلى عدم الاهتمام بالقدس وفلسطين والعراق بدعوى أن كل قوَّتنا يجب أن نبذلها للوطن، وبهذا استبدلوا عقيدة الولاء والبراء الإسلامية بمفهوم الوطنية العلماني الأجوف بغية تشتيت قوى المسلمين، وإشغالهم بالصراع بينهم بعد افتعال قضايا وهمية لتغذية العداء وتعميق الخلاف بينهم، فالجزائري عدو للمغربي مثلا انطلاقا من مفهوم المواطنة العلماني وليس من منطلق عقيدة الولاء والبراء الإسلامية.
وكذلك موقف الكويت من العراق رغم الاحتلال الأمريكي الغاشم إنما أفرزته مفاهيم العلمانية على المستوى السياسي.
ونظرا لخطورة هذه المفاهيم وأهميتها في إضعاف قوة المسلمين عملت الدول الإمبريالية العلمانية في مؤتمر “لوزان” على فرض شروط تتمحور كلها حول تبني العلمانية الشاملة وإلغاء كل مظاهر الدين الإسلامي من البلاد (إلغاء نظام الخلافة الإسلامية، إلغاء المحاكم الشرعية، إقصاء اللغة العربية، فرض الأذان باللغة التركية، منع الحجاب، حل الأوقاف الإسلامية، قطع العلاقات مع الدول الإسلامية…) وذلك حتى توافق على منح الاستقلال لتركيا بعد أن مكنت ليهود الدونمة والماسونيين الأتراك العلمانيين من الحكم وأحلتهم مراكز القرار في الدولة.
وفي سنة 1925م أي بعد أشهر قليلة من إلغاء الخلافة، ودعما للمفاهيم نفسها كتب علي عبد الرزاق كتابه الذي يعتمده العلمانيون العرب في التصدي للمطالبين بتطبيق الشريعة الإسلامية، مدعيا أن الإسلام ليس فيه حكم سياسي، مباشرة بعده أصدر طه حسين كتابه ” في الشعر الجاهلي” مشككا في القرآن مطالبا باعتباره كتابا تاريخيا قابلا للنقد كأي كتاب آخر، مطالبا في الوقت نفسه باتباع الأوربيين والسير على نهجهم في كل شيء، ينضاف إلى ذلك ما كتبه ونادى إليه كل من البستاني وسلامة موسى ولويس عوض والقائمة طويلة.
فهؤلاء الذين تربوا على أيدي المستشرقين هم من كوّنوا في الجامعات والمعاهد العلمية الجيل العلماني الذي عمل على محاربة الشريعة وهيأ المجال لتبني العلمانية نظاما للحكم بعد الاستقلال في جل البلاد الإسلامية، هذا الجيل الذي أصبح ينادي إلى التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأغرق الأمة بالمهرجانات المفرغة للشباب والصارفة لهم عن قضايا أمتهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *