الشيخ الطنطاوي معلما (ج.2) ذة. لطيفة أسير

لأن الأديبَ من سماته عشق الحرية، فإنّ الشيخ الطنطاوي كان يكره القيود، وكثيرا ما يثور ضدها ويتمرّد ضد القوانين التي تُعيق سيره الطبيعي، لذا فالطنطاوي المعلم كان متمرّدا، ولم يثنِهِ تنقيلهم له كل حين بين القرى والمدن والبلدان العربية، بل ظلت روحه الوثّابة رفيق دربه الدائم: (كنتُ معلم ابتدائي ولكني كنتُ متمرّدا، أقوم بعملي كلّه أو بأكثر منه لأني كنتُ أحبّ عملي، ولكني لا أشعر بالخضوع لمدير. ولمّا جاءت بدعة دفتر التحضير رفضتها، ولم يستطع أحد أن يجبرني عليها لأنني إذا ضُويقتُ فزعتُ إلى قلمي فجرّدته فقرعت به أركان وزارة المعارف.) -ذكريات 3/197-
لكنه أيضا لا ينصح بهذا التمرّد ولا يشجع عليه في الوقت الحالي فيقول: (وأنا لا أرى للشباب أن يقلّدوني فيه، ولكن أذكرُ ما كان. وأنا أعلم أنه لا يستقيم أمر أمّة إذا تمرّد موظفوها على رؤسائهم أو تكبّر عليهم رؤساؤهم، إنما يستقيم أمرها إذا وقّر صغيرُها كبيرَها ورحم كبيرُها صغيرَها، اتّبعوا في ذلك منهج الإسلام وسنّة الرسول عليه الصلاة والسلام ) -ذكريات 3/197-.
ويبدو واضحا من ذكريات الشيخ الطنطاوي أنه لم يكن مستأنسا غاية الاستئناس بالتدريس، خصوصا تدريس الصبيان، حيث كان مستاء من عمله بالسلك الابتدائي: (لماذا قبلتُ أن أكون معلما؟) هكذا يسائل الطنطاوي نفسه وهو يسترجع ذكرياته، ويرى أنه كان من الغبن أن يعيّن معلما للابتدائي وأنه كان يستحق منصبا أسمى، فيجيب على سؤاله قائلا: (إني أفكر في هذا الآن فأرى أنني فعلت ذلك لأسباب، أولها: أنني اشتغلت من قبل بالتعليم، والمعلّم وإن كان موظفا مقيّدا بقيود الوظيفة ولكنه في الفصل حرّ، يأمر كثيرا ولا يؤمر إلا قليلا. ولأنّ تعييني مُدرّسا في الثانوية كان يومئذ أمرا كالمستحيل، لأنه لم يكن في الشام إلا ثانوية رسمية واحدة ….فهل أزاحم أساتذتي على كراسيهم وهم أحياء؟) -ذكريات 3/197.
ويتضح هذا الاستياء أكثر في قوله: (كيف أقول لهم إني كنت في الوظيفة معلم ابتدائي، موظفا من الدرجة الخامسة، ولكني كنت في المجتمع وفي مجال الأدب ومجال العلم في مرتبة أعلى من ذلك؟ ولكن لماذا رضيت بالدنيّة فصرتُ معلم ابتدائي؟) -ذكريات 3/196-.
بل إنه اعتبر مهنة التدريس نوعا من أنواع البلاء الذي يفتك بالمعلم ويمتص رحيق عمره رويدا رويدا، ولله درّه فقد أصاب كبِد الحقيقة! يقول رحمة الله عليه في كتابه “صور وخواطر” ص:128: (أنا في هذا البلاء من عشر سنين، عشر سنين يا لها من دهر طويل! كان ربيع حياتي، وزهرة شبابي أضعته كله في هذا العناء فماذا استفدت؟ لا شيء إلا أن أحرقت نفسي لأضيء لهؤلاء الفتية طريقهم إلى المجد، هؤلاء الذين أحببتهم وأخلصت لهم الحب، وعِشتُ بهم دهرًا ولهم، واعتصرت لهم ماء شبابي، ثم فرّق الزمان بيني وبينهم، فلم أعرف مكانهم من الشام أو العراق، ولم يعرفوا مكاني لأنهم لم يفكروا أن يعرفوه .
فأنا أحترق كالشمعة! يا للحقيقة المرّة المروّعة! يا لشمعة شبابي التي ذوت وخبت وأوشكت أن تنطفئ!).
ولعلّ الذي جعله يضيق ذرعا بالتدريس بالابتدائي بعض المعيقات بهذا المستوى منها -كما ساقها في ذكرياته-: رعونة بعض المديرين وسخافة عقولهم واهتمامهم بالصغائر وكذا انتفاخ بعض المفتّشين، إلى جانب الأنظمة والقوانين الغريبة التي يضعها غالبا أناس غرباء عن التعليم، ولو لا ذلك (لكان التعليم الابتدائي نعمة من النعم).
كما زاده رهقا التوزيع الزمني للعمل بالابتدائي والذي يكاد يخنق المعلم والتلميذ معا: (فمعلّم الابتدائي كان يجد من المشاقّ ومن المتاعب ما يكرّه إليه مهنته . كنّا ندرّس في الأسبوع ستا وثلاثين ساعة، ما عندنا راحة يوم ولا نصف يوم، حتى ولا يوم الخميس. ندرّس من الصباح إلى المساء، نبقى في المدرسة لا نخرج منها، نرقع خروق عقول الصغار من عقولنا، فلا نصل إلى سنّ التقاعد حتى يُمسي كثير منا بلا عقل ! نعاشر أطفالا تفكيرهم محدود فننزل إليهم فنحدّ من أفكارنا، فنفكّر كالأطفال ونحن كبار) -ذكريات 3/324-.
ومن مثيرات الغيظ التي تدفع بالمعلم أنْ يتمنى تقاعدا قبل أوانه، ويعضّ على أنامله من القهر، مواقفٌ من الصبيان تجعل المدرس يعيش حالات من الذهول وهو يسائل نفسه: أين الخلل؟ وهاؤم عينة من هذه المواقف التي وقعت للشيخ الطنطاوي، حيث يقول: (كنتُ أعلّم التلاميذ ما جاء في الكتاب في تعريف الاسم “وأنه الكلمة التي تدل على معنى مستقل في الفهم وليس الزمن جزءا منه” شرحت ذلك وأعدتُه وكرّرته فلم يفهموا عني ..وبعد أن تكلمت ربع ساعة قلت: من فهم؟ فرفع ولدٌ إصبعه، فحمدت الله على أنّ واحدا منهم قد فهم، وقلت: قم يا بني بارك الله فيك فأخبرني ما هو الاسم؟ فقال: يا أستاذ هذا دعس على رجلي .فصِحتُ به: ويحك، إني أسألك عن تعريف الاسم فلماذا تضع رجلك في التعريف؟ ألم أقل لكم إن هذه الشكاوى ممنوعة أثناء الدرس؟ فقال: ولماذا يدوس هو على رجلي؟ فصِحتُ بالآخر: لِمَ دست على رجله يا ولد؟ فقال: والله كذّاب، ما دُست على رجله ولكن هو الذي عضّني في أذني. فغضبت وصرخت: وكيف يعضّك وأنا قاعد هنا؟ فقال: ليس الآن ولكنه عضني أمس. فتطوّع العفاريت الصغار للشهادة للمدّعي والمدّعى عليه، وزُلزل الفصل، فضربت المنصّة بالعصا وأسكتّهم جميعا وهدّدت من يتكلّم منهم بأقسى العقوبات. ولست أدري أنا ما أقسى العقوبات هذه ! فسكتوا وعادوا إلى الدرس ) -ذكريات 3/325-326-.
وقد علق الشيخ على هذه الحادثة بأنّ هذا لم يكن ديدن الفصل، لأنه كان حريصا على ضبط التلاميذ، بالشدة واللين، فكان هناك خوف مشُوب بمحبة، وكان يستعمل أحيانا الضرب كما ذكر في ذكرياته 3/326 – (لمّا نقلتُ إلى مدرسة الميدان فأمضيت فيها مدة قصيرة وجدت في السنة الثانية ولدا صغيرا اضطررت إلى ضربه فبكى قليلا، ثم أرضيته فسكت) هذا الطفل صار له شأن عظيم فيما بعد وبقيتْ صلته بالأستاذ وطيدة حيث قال عنه بعد أن حكى قصته في ذكرياته (هذا هو التلميذ الذي ضربته ثم صار صديقي وأخي وولدي كبيرا، وهو العالم الأستاذ زهير الشاويش صاحب المكتب الإسلامي للنشر والتوزيع) -ذكريات 3/327-.
ولعلّ هذا الموقف من التعليم الابتدائي كمعلم يتوافق وموقفه منه حين ولج المدرسة أول حياته كتلميذ، أو بالأحرى حين ولج الكتّاب الذي جعله ينفر أول الأمر من الدراسة، بل ويعتبره خطبا من خطوب الدهر: (وكرّت بي الذكرى إلى أول خطب من خطوب الدهر نزل بي…ذلك هو أول دخولي للمدرسة، لقد كان يوما أسود لا تُمحى من نفسي ذكراه، ولا أزال إلى اليوم كلما ذكرته أتصور روعه وشدّته. لقد كرّه إليّ المدرسة وترك في نفسي من بغضها ذخيرة لا تنفذ. ولقد صرتُ من بعد معلّما في الابتدائية ومدرّسا في الثانوية وأستاذا في الجامعة، وما ذهب من نفسي الضيق بالمدرسة والفرح بالخلاص منها، والأنس بيوم الخميس واستثقال يوم السبت، وما ذهبت إلى المدرسة أو إلى الجامعة مرة إلا تمنيت أن أجدها مغلّقة أو أجد الطلاب قد انصرفوا منها والدروس معطلة فيها) -6/295-296-.
وقد تحدث في كتابه “ذكريات” غن معاناته من أساليب المعلمين الجافة والتي كادت تُفقده ثقته في العلم والدراسة لولا أن منّ الله عليه بمعلم بشوش في المدرسة التجارية (أما أنا فقد استهللتُ دراستي شقيّا في الكتّاب، وشقيا في المدرسة ….ولقد رأيتُ أول عهدي بها ما كرّه إليّ العلم وأهله، ولولا أن تداركني الله بغير معلمي الأول لما قرأتم لي صفحة كتبتها) -ذكريات 1/ 43-47.
لكن تراكم التجارب في حياة الشيخ الطنطاوي جعلته يشعر بالأسف على موقفه العدائي من التعليم الابتدائي خصوصا، ويعترف بذلك بجرأته المعهودة: (إنني أقول الآن: يا أسفي على أيامي الأولى في التعليم الابتدائي التي ضقت بها لمّا كنت أعيشها، ثم عرفت قدر عملي فيها لما فارقتها) -ذكريات 3/321.
وهذا ما جعله يقرّ بعد هذه الرحلة الطويلة بأهمية التعليم الابتدائي، وأن نجاح أو فساد التعليم رهين بمدى الاهتمام بهذا المستوى الذي يُعد اللبنة الأساس في تكوين الطالب: (لقد وجدتُ أنه ليس شيء أبرك ولا أنفع للناس ولا أجمع للثواب من تعليم تلاميذ المدارس الابتدائية.
معلم الابتدائي هو الأساس. والبناء الذي حدّثونا عنه في أميركا وقالوا إن فيه مئة طبقة بعضها فوق بعض لا يقوم ولا ينُتفع به إن لم يحمله أساس متين غائص في الأرض، والأساس لا يُرى ولكن البناء لا يقوم إلا عليه. هذا الأساس هو التعليم الابتدائي، لا يراه الناس على حقيقته ولا يقدّرونه قدره. إنّ ضعف معلم الابتدائي لا تُصلحه قوة مدرّس الثانوي ولا أستاذ الجامعة) -ذكريات 3/320-
ولعلّنا ننهل من تجارب الشيخ الطنطاوي فننظر لتصوره العام حول قطاع التعليم ـ بعد أن بسطنا ملامح سريعة من شخصيته كمعلم، حيث تحدث الشيخ عن بعض أسباب فساد التعليم بوطننا العربي، وتطرق لبعض الحلول الإصلاحية المقترحة بسطها بين ثنايا كتبه القيمة .
فنظام التعليم في بلادنا (كالبيت العتيق الخرب، المختل الهندسة، الذي لا يفتأ أصحابه يتعهدونه بالترميم والإصلاح ولكنهم لا يجرؤون على هدمه من أساسه وبنائه من جديد على هندسة صالحة، ونمط صحي نافع) -في سبيل الإصلاح ص:154-.
(يتبع..)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *