تدارك نفسك يا طالب العلم علي النجيدي

أخي، يا من بذلت نفسك ومالك لطلب العلم ورفع الجهل عن نفسك ومَن حولك، تركت اللذة والراحة واشتغلت بالعلم تجلس الساعة والساعتين في قراءة كتاب، أو في بحث مسألة، أو في مناقشة عبارة، أو في حفظ متن من المتون، أو في حفظ كتاب الله عز وجل قبل ذلك، أو مطالعة كتاب وشرحه أو اختصاره أو التعقيب عليه أو انتقاء الفوائد منه؛ كل هذا وأكثر تعيشه أنت في يومك وليلتك، تعيش بين الكتب تارة وفي مجالس العلم والعلماء تارة أخرى، تتعلم الفقه في دين ربك عز وجل، تتعلم الواجب والحرام والمندوب والمكروه والمباح، فتأخذ بالواجب طاعةً لربك، وتترك الحرام طاعة لربك، وكذلك السنن والمكروهات؛ وتتعلم كيف كان هدي رسولك محمد صلى الله عليه وسلم، وهكذا فأنت متقلب بين هذه العلوم النافعة.
فيجب عليك حينئذ أن تكون مخلصا لله عز وجل، وإلا مُحقت بركة هذا العلم وكان وبالا عليك، فلا بد من التقوى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} فالعمل حتى يكون مقبولا عند الله عز وجل لا بد أن يكون خالصا لله على هديِ رسول الله صلى الله عليه وسلم {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}.
وجاء في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ -إلى أن قال- وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا؛ قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ؛ قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ؛ ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ…» قال ابن عبد البر رحمه الله: «وهذا الحديث فيمن لم يُرد بعمله وعِلمه وجه الله تعالى».
ولما سمع معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه هذا الحديث بكى وقال: «صدق الله ورسوله: { مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ ۖ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ *}، فأخلص النية يا طالب العلم حين الطلب، فالنية الصالحة هي الخطوة الأولى في طريق التوفيق وإدراك الحق بإذن الله عز وجل، وإنه لمن أعظم الخسران والندامة أن تأتي يوم القيامة وتظن نفسك من أهل الصلاح والعلم والتقى ثم تُساق إلى جهنم! ويا ليتها كانت تُساق بل تُسحب على وجهها فتلقى في جحيم وسعير وزمهرير وسجيل وقودها الناس والحجارة، عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، الناس فيها كالحطب في نار الدنيا يذوقون حميما وغساقا، تبدل جلودهم ولا يموتون فيبدل الله جلودهم بأُخرى طرية ليذوقوا العذاب من جديد، هذا حال أهل النار بل أشد، يقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ * لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ *} فهل يسرك أن تكون من المعذبين في النار؟
والله عز وجل لم يرتب هذا الوعيد إلا لحكمة أرادها سبحانه وتعالى، وذلك أنك يا طالب العلم قدوة وأسوة يحسبك الناس عالما فاهما بارعا في علوم الدين، فيرفعونك ويقدمونك في المجالس، ويكون لك الأمر والنهي عندهم وغير ذلك، وبهذا كله نسيت فضل الله عز وجل عليك، وأنه هو الذي نفعك وأعطاك ومنعك وأكرمك، فيجعلك الله وضيعا حقيرا لأنك ما أعطيته حقه، فكان كفرا منك بنعم الله عليك، وإن المتأمل في حديث أبي هريرة رضي الله عنه هذا، يجد أن السبب الذي أودى بالعالم والقارئ والمجاهد إلى النار هو نقص الإخلاص واستحواذ الرياء على قلب هذا العبد، فجهاد الرياء أعظم من جهاد الكافر أو المنافق، ذلك أن الرياء جهدُ النفس بالنفس فكيف تجاهد النفسُ نفسا غيرها ولم تجاهد نفسها التي بين جنبيها؟ فهذا والله لَمِن أشد أنواع الحرمان للمؤمن، فكيف بالعالم أو القارئ أو المجاهد؟
يا طالب العلم قد تزيد همتك في الطلب إذا قرأت عن حفظ الشافعي وأحمد، أو إذا قرأت في ذكاء ومناظرات وردود ابن تيمية، أو في شرح ابن قدامة لمتون الفقه، فتجد البراعة والإتقان في التصنيف والترتيب، ولكن تزيد بنِية غير النية التي هي واجبة على طالب العلم وهي الإخلاص، فيكون حب الظهور لأن فلانا في سن صغيرة قد فاق أقرانه في حفظه وفهمه، وتريد أن تكون مثله، وتسأل لماذا والجواب في نيته: أريد أن أكون مثل فلان خرج في الإعلام وأصبح يفتي في القنوات ويحرر المسائل ويلقي الدروس والمحاضرات، هب أنك كنت، ماذا بعد ذلك ماذا تريد: أريد أن أصل إلى ما وصل إليه ولكن بنية غير النية الواجبة عليه، قف هنا وجدد نيتك واعلم أنك محاسب، وتوكل على الله واصحب صحبة طيبة تعينك على الحق وتعينك على الطلب والاجتهاد، وعليك بالدعاء فهو السلاح القوي وهو حقيقة العبادة، توسل وتضرع وابتهل إلى الله، فإنه قريب مجيب الدعاء.
إذا حسُنت النية بلغك الله درجات العلماء، فعليك بنفسك أولا أصلحها وقومها على المنهج الصحيح والطريق السليم في زمنٍ أصبح الإنسان فيه ضائعا تائها بين كثير مما يُثار من الشُبه، ويشكَّك في أهل السنة والجماعة، وتجد الإلحاد والزندقة ينتشران بين المسلمين، وأكثرهم بضاعته زهيدة لا يملك من العلم إلا ما يقيم به فرائض الدين، ولكن حين يُسأل عن أمور العقيدة يتيه عقله ويزل لسانه ولا يستطيع أن يجيب، فإذا بالذي أمامه من أهل الضلال قد أجاب عنه وأقنعه بضلال دينه، وأنه على طريق مظلم لا نور فيه، وأن الدين الصحيح هو عندنا نحن النصارى أو اليهود أو الشيعة… إلى آخره من الفرق والطوائف.
أقول هذا لتعلم يا طالب العلم ويا مسلما لله موحدا له أنه يجب عليك أن تسأل الله الثبات على دينه، ولا يغرنك التزامك وانضمامك إلى مكتبة أو مجلس علم، نعم هذا من المثبتات ولكن اسأل الله دائما الثبات على الدين والاستقامة على الشرع، فإن المصطفى صلى الله عليه وسلم في عهده الذي ماتت فيه الفتن العظيمة، وهو بين أظهر أصحابه، والوحي بين يديه، والتأييد يأتيه من السماء، وأصحابه كلٌ يفديه بنفسه وأهله وماله، وهو المعصوم صلى الله عليه وسلم من كل ذنب ومعصية، يدعو ويقول: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك».
أناس يعيشون بيننا نحسب أن الخطر بعيد عنهم وأنهم ممن يستطيعون رد هذه الشبه ولا يقعون فيها، فإذا بهم يموتون على ضلال، فتدارك نفسك يا طالب العلم.
اللهم إنا نسألك الثبات على دينك والاستقامة على شريعتك حتى نلقاك.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *