علم أصول الحديث قواعد عقلية وأصول شرعية 2/2

ما سبق ذكره في الحلقة الماضية أسس منهجية عامة بناها القرآن الكريم، وبناها رسولنا الكريم عليه الصلاة والسلام في نفوس أصحابه، لترسم لهم الأطر العامة لنظرية المعرفة التي يبحثون عنها، والتي سيؤسسون علوم العقل والنقل تبعا لها، فأثمرت هذه الأصول تحريا دقيقا جدا، وحسا نقديا عاليا ومنضبطا، سببه الخوف من مخالفة تلك الأصول والأوامر الإلهية، ولولا ذلك لخاض المسلمون في طرق الأوهام والتخرصات، ولرأينا الخرافات والأساطير والتناقضات هي اللغة الطاغية على علوم المسلمين، ولكن الوازع الديني في المباني العشرة السابقة كانت لها أعظم الأثر في منهج التحري والتدقيق الذي سلكه المحدثون.

أما التفاصيل الدقيقة في أصول الحديث، الذي هو “علم بقوانين يعرف بها أحوال السند والمتن من حيث القبول والرد”، كمثل الحديث عن ضبط الصدر وضبط الكتاب، ومنهج التعامل مع أحاديث المدلسين، وترجيح خبر الأوثق على الثقة، وترتيب طبقات الرواة عن شيخ معين، والمقارنة بين الروايات وجمع الطرق، والتأني في الأفراد، والاستئناس بالقرائن، والتقوية بالكثرة وتعدد الأوجه، وغيرها من قوانين القبول والرد، هي -كما ترون- نتاج عمل عقلي تفصيلي، يترجم تلك المبادئ العامة إلى قوانين عملية منهجية، يصل المحدثون من خلالها إلى حكمهم على الحديث صحة وضعفا.

يقول العلامة المعلمي رحمه الله:

“ولكن هل راعوا العقل في قبول الحديث وتصحيحه؟

أقول: نعم، راعوا ذلك في أربعة مواطن: عند السماع، وعند التحديث، وعند الحكم على الرواة، وعند الحكم على الأحاديث.

فالمتثبتون إذا سمعوا خبرا تمتنع صحته أو تبعد لم يكتبوه ولم يحفظوه، فإن حفظوه لم يحدثوا به، فإن ظهرت مصلحة لذكره ذكروه مع القدح فيه وفي الراوي الذي عليه تبعته.

قال الإمام الشافعي في الرسالة (ص399): «وذلك أن يستدل على الصدق والكذب فيه بأن يحدث المحدث ما لا يجوز أن يكون مثله أو ما يخالفه ما هو أثبت أو أكثر دلالات بالصدق منه».

وقال الخطيب في الكفاية في علم الرواية (ص429): «باب وجوب إخراج المنكر والمستحيل من الأحاديث».

وفي الرواة جماعة يتسامحون عند السماع وعند التحديث، لكن الأئمة بالمرصاد للرواة، فلا تكاد تجد حديثاً بيِّنَ البطلان إلا وجدت في سنده واحداً أو اثنين أو جماعة قد جرحهم الأئمة، والأئمة كثيراً ما يجرحون الراوي بخبر واحد منكر جاء به، فضلاً عن خبرين أو أكثر.

ويقولون للخبر الذين تمتنع صحته أو تبعد: «منكر» أو «باطل». وتجد ذلك كثيراً في تراجم الضعفاء، وكتب العلل والموضوعات.

والمتثبتون لا يوثقون الراوي حتى يستعرضوا حديثه وينقدوه حديثا حديثاً.

فأما تصحيح الأحاديث فهم به أعنى وأشد احتياطا، نعم ليس كل من حكي عنه توثيق أو تصحيح متثبتاً، ولكن العارف الممارس يميز هؤلاء من أولئك.

هذا وقد عرف الأئمة الذين صححوا الأحاديث، أن منها أحاديث تثقل على بعض المتكلمين ونحوهم، ولكنهم وجدوها موافقة للعقل المعتد به في الدين، مستكملة شرائط الصحة الأخرى، وفوق ذلك وجدوا في القرآن آيات كثيرة توافقها أو تلاقيها، أو هي من قبيلها، قد ثقلت هي أيضاً على المتكلمين، وقد علموا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يدين بالقرآن ويقتدي به، فمن المعقول جداً أن يجيء في كلامه نحو ما في القرآن من تلك الآيات”. انتهى من “الأنوار الكاشفة” (ص: 6-7).

ويقول الدكتور خلدون الأحدب: “إن بناء (علم أصول الحديث) كان بناءً عقلياً. ولولا هذه الصفة، لما كان له أبداً هذا الأثر البالغ في بناء وتشكيل العقل المسلم.

وهذا البناء العقلي كان ابتداؤه من تلك الأصول العقلية المنهجية التي قررها القرآن الكريم والسنة المطهرة في شأن الراوي والمروي، والتي إليها يعود (علم أصول الحديث).

وتقرير حقيقة البناء العقلي لهذا العلم يتجلى في كون المحدثين قد رَاعَوْ العقل في قبول الحديث وتصحيحه في أربعة مواطن، كما يقول العلامة الناقد عبد الرحمن المعلِّمي اليماني”. انتهى من “أثر علم أصول الحديث في تشكيل العقل المسلم” (ص19).

ويقول الدكتور عبد الله ضيف الله الرحيلي: “الضوابط العلمية للتّثبت في الرواية عندنا نحن المسلمين -كما هي الحال في منهج المحدثين- ليستْ مستندة للإيمان بالغيب، بحيث يكون ضابطاً من ضوابط تثبيت الرواية أو تزييفها، بل هي ضوابط عقلية تستند إلى العقل، وإلى القضايا التاريخية الثابتة، ومقارنةِ الروايات وعَرْضها على بعضها أو على سواها مما رآه المحدثون ضابطاً أو دليلاً على صحة الرواية.

وهذه الضوابط بهذا الوصف تُعَدُّ عقليةً فطرية يشترك البشر -غالباً- في إدراكها وقبولها، بغض النظر عن أديانهم واتجاهاتهم؛ فالخبر بالسند المنقطع مثلاً تشترك العقول السليمة في الشك فيه أو عدم التسليم به من هذا الوجه، وذلك لعدم وجود الناقِل المتصل بمصْدر الخبر، وإذا لم يتوفر هذا الناقل فكيف يتصور العلم بالخبر؟!

إن العقول البشرية تُفَرِّق بين الخبر من جهة، وبين التوقع والظن من جهة أخرى. ومن هنا لا يَرِد التساؤل القائل أي منهج علميّ يستند إليه منهج المحدثين في التثبت من صحة الرواية؟ هل هو ذاك المنهج العلمانيّ المُنْطَلَق، أم الإيماني المُنْطَلَق؟ ذلك أن عنصر الإيمان بالغيب في منهجنا لم يتدخل في مقاييس قبول الرواية وردها -من هذه الحيثية-، وإن كانت مقاييسنا لا تنافي الإيمان بالغيب بل تُثْبته، لكن هذا الجانب من منهج المحدثين متعلِّقٌ بجانب الرواية، وليس بالرأي والاعتقاد وعلْم الغيب” انتهى من “حوار حول منهج المحدثين في نقد الروايات سندا ومتنا” (ص12-13).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *