هل سكت هارون عليه السلام عن ارتكاب الشرك الأكبر حفاظا على وحدة المجمتع؟ 2/2 د. رشيد بنكيران

  • القائلون بسكوت هارون عليه السلام عن ارتكاب الشرك الأكبر لأجل الحفاظ على وحدة الجماعة مؤقتا

من الذين قالوا بهذا القول الشيح الدكتور يوسف القرضاوي إذ تعرض لقصة موسى عليه السلام في كتابه الصحوة الإسلامية وقال ما نصه:

“وفي غيبة موسى فتن قومه بعبادة العجل الذي صنعه لهم السامري، فلما رجع موسى إلى قومه، فوجئ بهذا الانحراف الكبير الذي يتصل بجوهر العقيدة التي بعث بها هو، وبعث بها كل ارسل من قبله ومن بعده.

وهنا غضب موسى وألقى الألواح وأخذ برأس أخيه يجره، وقال: (قَالَ يَٰهَٰرُونُ ‌مَا ‌مَنَعَكَ إِذۡ رَأَيۡتَهُمۡ ضَلُّوٓاْ أَلَّا تَتَّبِعَنِۖ أَفَعَصَيۡتَ أَمۡرِي) [طه:92-93] فكان جواب هارون كما ذكر القرآن: (قَالَ يَبۡنَؤُمَّ لَا تَأۡخُذۡ بِلِحۡيَتِي وَلَا بِرَأۡسِيٓۖ إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ بَيۡنَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَلَمۡ تَرۡقُبۡ قَوۡلِي) [طه:94]، وفي هذا الجواب نرى أن نبي الله هارون اعتذر لأخيه بهذه الجملة: (إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقۡتَ بَيۡنَ بَنِيٓ إِسۡرَٰٓءِيلَ وَلَمۡ تَرۡقُبۡ قَوۡلِي)، ومعنى هذا أنه سكت على ارتكاب الشرك الأكبر وعبادة العجل الذي فتنهم به السامري حفاظا على وحدة الجماعة وخشية تفرقها، وهي لا شك خشية موقوتة بمدة غياب موسى حتى إذا عاد تفاهم الأخوان في كيفية مواجهة الأزمة”. انتهى

وقريبا من مضمون كلام الشيخ الدكتور القرضاوي ذهب كذلك الشيخ الدكتور أحمد الريسوني وعبر عنه بكلام في الجملة موافق لتأويل الشيخ القرضاوي، ففي كتابه “محاضرات في مقاصد الشريعة قال: “ففي غياب موسى وقعت الانتكاسة لبني إسرائيل، فانخرط معظمهم في عبادة إلاههم الذهبي الذي صنعه لهم السامري…

هارون اختار في النهاية كما هو مبين في القرآن الكريم أن يسكت وأن يبقي على هؤلاء الذين عبدوا العجل وأشربوه ونكصوا على أعقابهم. آثر هارون الهدنة والألفة والسلامة في انتظار عودة موسى صاحب القوة وصاحب الرسالة وصاحب الكلمة المسموعة”. انتهى

وقد سبق الشيخين الفاضلين في تفسير موقف هارون عليه السلام الآنف الذكر فضيلةُ العلامة محمد الطاهر بن عاشور في موسوعته في التفسير “التحرير والتنوير” وقال:

‌”واعتذر ‌هارون عن بقائه بين القوم بقوله (إني خشيت أن تقول فرقت)، أي أن تظن ذلك بي فتقوله لوما وتحميلا لتبعة الفرقة التي ظن أنها واقعة لا محالة إذا أظهر هارون غضبه عليهم؛ لأنه يستتبعه طائفة من الثابتين على الإيمان ويخالفهم الجمهور، فيقع انشقاق بين القوم، وربما اقتتلوا، فرأى من المصلحة أن يظهر الرضى عن فعلهم ليهدأ الجمهور ويصبر المؤمنون اقتداء بهارون، ورأى في سلوك هذه السياسة تحقيقا لقول موسى له (وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين) في سورة الأعراف [142]. وهو الذي أشار إليه هنا بقوله (لم ترقب قولي)، فهو من جملة حكاية قول موسى الذي قدره هارون في ظنه. انتهى

قلت: من خلال ما تقدم من أقوال هؤلاء العلماء فإن هارون عليه السلام دفع مفسدة وقوع الانشقاق بين قومه وحافظ على وحدة الجماعة بإظهار الرضى عن فعل عبادة العجل والسكوت عن ارتكاب الشرك الأكبر وإيثار الهدنة والألفة. فهل فعلا وقع منه ذلك؟

  • هارون عليه السلام لم يسكت قط عن الارتكاب الشرك الأكبر وعبادة العجل

تعرض القرآن الكريم لقصة هارون عليه السلام التي تتعلق بعبادة العجل في سورتين؛ في سورة الأعراف وسورة طه، ولمعرفة موقف هارون الحقيقي والمطابق لما جرى كان لزاما على أي باحث أن يجمع ما جاء متفرقا في القرآن الكريم ويقرأ القصة من أولها إلى آخرها، ولا يكتفي بجزء منها دون مراعاة السابق واللاحق، وبالاعتماد على هذا المنهج السليم ظهر جليا أن النبي هارون لم يسكت أبدا عن الشرك الأكبر وعبادة العجل، بل دعا عليه السلام قومه ـ وهو صاحب اللسان الفصيح ـ لترك عبادة العجل جهارا وكفاحا حتى كادوا أن يقتلوه، وسجل القرآن الكريم هذا الموقف العظيم:   {وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)} [الأعراف]. فلو سكت هارون عليه السلام عن قومه عندما عبدوا العجل وتركهم دون بيان وإقامة الحجة ـ التي أمر الله بها كل نبي ـ ما قام قومه عليه حنى كادوا أن يقتلوه، فلا بد أن النبي هارون قهر قومه بسلطان العلم والحجة البالغة حتى نفذ صبرهم ولم يجدوا وسيلة لإسكاته سوى التهديد بالقتل، وإلا لماذا سيهددونه بالقتل وهو ساكت عنهم وظاهره راض عنهم؟؟؟

قال الألولسي في تفسيره “روح المعاني: “{إِنَّ القوم} الذين فعلوا ما فعلوا {استضعفونى} أي استذلوني وقهروني ولم يبالوا بي لقلة أنصاري {وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِى} وقاربوا قتلي حين نهيتهم عن ذلك؛ والمراد أني بذلت وسعي في كفهم ولم آل جهداً في منعهم” انتهى.

وما ذكره الألوسي عن بيان هارون عليه السلام لقومه وبذل وسعه في النصح لهم أشار إليه القرآن الكريم في سورة طه وذلك عند قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَاقَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي}. وعليه، فهارون عليه السلام بنص القرآن أمر قومه باتباعه أي بالتوحيد ولم يسكت عن الشرك.

أما ما علل به نبي الله هارون من خشية تفرق بني إسرائيل فليس لأجل سكوته عن عبادة العجل وارتكاب الشرك الأكبر؛ لأن ملام موسى عليه السلام له لم يكن في ذلك الأمر، بل كان في أمر آخر، وقد صرح به؛ وهو  المبادرة لفراق أهل الضلال لما لاعبدوا العجل، وهو بين واضح في تتمة قوله تعالى: {قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه]. قال ابن جرير: واختلف أهل التأويل في المعنى الذي عذل موسى عليه أخاه من تركه اتباعه…. وأولى القولين في ذلك بالصواب، القول الذي قاله ابن عباس من أن موسى عذل أخاه هارون على تركه اتباع أمره بمن اتبعه من أهل الإيمان” انتهى.

قلت: بعد استعراض قصة هارون عليه السلام كاملة كما دل عليها القرآن الكريم يتبين أن هارون لم يسكت عن الشرك الأكبر حفاظا على وحدة الجماعة وخشية وقوع الاقتتال بين أفرادها، وبعبارة أخرى لم يقدم حفظ أصل النفس على أصل حفظ الدين، وإنما قدم حفظ النفس على فرع من فروع حفظ الدين، الذي يتمثل في قصة هارون في هجر المشركين وعبدة العجل، ورغم ذلك لامه موسى عليه السلام على ترك هجرهم ومفارقتهم.

وإذا كان العلامة ابن عاشور فسر موقف هارون عليه السلام كما فسره الشيخان الدكتور القرضاوي والدكتور الريسوني إلا أنه يراه مرجوحا بخلافهما، فهما يريان أن مصلحة وحدة الجماعة تقدم  مؤقتا على مصلحة حفظ الدين أو العقيدة، أما ابن عاشور  فإنه يرى أن مصلحة العقيدة تقدم على مصلحة وحدة الجماعة بإطلاق، ولا يجوز السكوت عما يفضي إلى فساد عقيدة التوحيد، وقرر كلاما نفيسا يحسن نقله، فبعد تفسيره لموقف هارون، قال رحمه الله: “وكان اجتهاده ذلك مرجوحا لأن حفظ الأصل الأصيل للشريعة أهم من حفظ الأصول المتفرعة عليه، لأن مصلحة صلاح الاعتقاد هي أم المصالح التي بها صلاح الاجتماع، كما بيناه في كتاب (أصول نظام الاجتماع الإسلامي).

ولذلك لم يكن موسى خافيا عليه أن هارون كان من واجبه أن يتركهم وضلالهم وأن يلتحق بأخيه مع علمه بما يفضي إلى ذلك من الاختلاف بينهم، فإن حرمة الشريعة بحفظ أصولها وعدم التساهل فيها، وبحرمة الشريعة يبقى نفوذها في الأمة والعمل بها كما بينته في كتاب (مقاصد الشريعة).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *