شرح منظومة العلامة القاضي محمد أبي بكر القيسي الغرناطي التي سماها «نيل المنى في نظم الموافقات» للإمام الشاطبي -رحمه الله- الشيخ مولود السريري

فكم يزيـل الشيـخ من إشكـال ***بمقـتـضــى قــرائــن الأحـــوال
وكم يجلي من أمور غامضـة ***وشـبــه قـد وردت مـعــارضــة
فتنـجـلـي إمـا بـأمـر عـــادي ***أو هـبـة ليـســت مـن المـعـتــاد
تحصـل للتـلميـذ فـي تفهـمــه ***إذا استــوى بيـن يــدي معلـمــه
وذا الطـريــق نـافـع مطـلــب ***وكان بعض من مضى لا يكتب
ثم الطريق الثاني بالمراجعـة ***لكتـب أهــل العـلـم بالمطـالعــة
«فكم يزيل» يذهب «الشيخ من إشكال» يعرض للمتعلم في كتب يحفظها ويرددها على قلبه، إلا أنه يعوزه فهمها فإذا ألقاها الشيخ فهمها، وذلك يحصل إما «بمقتضى» وحكم «قرائن الأحوال» التي صحبت كلام الشيخ كإيضاح موضع إشكال لم يخطر للمتعلم ببال.
«و» كذلك «كم يجلي» يكشف ويظهر «من أمور» علمية ونظرية خافية عن الإدراك «غامضة» فيذهب غموضها، وتتضح، وتفهم؛ «و» كم يجلي ويكشف من «شبه» -بضم الشين وفتح الباء جمع شبهة، وهي لغةً الالتباس- والمراد بها ما يعرض في الأذهان من أمر يخيل للناظر خلاف الحقيقة فيتبعه لضعف علمه «قد وردت» على الأذهان «معارضة» للحق والصواب.
«فتنجلي» فتنكشف وتظهر حقيقتها، وذلك «إما» أن يكون «بأمر عادي» كما تقدم بيانه «أو» يكون «هبة» ربانية «ليست من» الطريق «المعتاد» المذكور.
وهي «تحصل للتلميذ» في روعه «في تفهمه» أي في أثناء تدرجه في الفهم، فيعلمها ويعيها، «إذا استوى» أي جلس «بين يدي معلمه» وشيخه.
«وذا الطريق» أي طريق المشافهة «نافع» مبارك «مطلب» أي مطلوب مرغوب فيه، وعليه العمدة في طلب العلم، «و» قد «كان بعض من مضى» من أهل العلم «لا يكتب» إنما كان يحفظ، ويكره الكتابة. ومن أهل هذا الشأن مالك، فقد كره كتب العلم، فقيل له: فما نصنع؟ فقال: تحفظون وتفهمون حتى تستنير قلوبكم ثم لا تحتاجون إلى الكتابة. وحكى عن عمر كراهية الكتابة، وإنما ترخص الناس في ذلك عندما حدث النسيان وخيف على الشريعة الاندراس.
ولما أنهى الناظم الكلام على هذا الطريق -طريق المشافهة- ذكر الطريق الثاني فقال: «ثم» يأتي بعد هذا الطريق «الطريق الثاني» وهو الذي يكون «بالمراجعة لكتب أهل العلم» و«بالمطالعة» لها.
وهو على الجملة أيضا نافـع*** وللـطـريــق الأولـى تـابــع
بشرطه أن يتحصل بل عنده*** في العلم ما يفهم منه قصده
وفي اصطلاح أهله ما يعتبر*** ومـا يتـم معـه حكـم النظـر
مع تحـري كتـب مـن تقـدمـا*** في كـل ما من العلـوم يمما
فـالـقـدمــاء بالـعـلــوم أقـعــد*** بـذاك تجريـب ونقـل يشهـد
«وهو على الجملة» والعموم «أيضا نافع» في بابه -أخذ العلم- «و» هو «للطريق الأولى» المتقدم ذكره، «تابع».
لأنه لا سبيل إلى الانتفاع بهذه الطريقة، طريقة المطالعة والمراجعة، إلا «بشرطه» بل يجب «أن يتحصل عنده في العلم» المطلوب من قوة الإدراك والنظر «ما يفهم منه» أي ذلك العلم «قصده» يعني مقاصده.
«و» ذلك يوجب أن يكون عنده «في اصطلاح أهله» أي أهل ذلك العلم «ما يعتبر» العلم به ممكنا من ذلك الفهم «وما يتم معه حكم النظر» في كتب ذلك العلم. ولا شك أن العلم بالمصطلحات العلمية لا يحصل إلا بأخذها عن أهل العلم بها مشافهة، فتكون هذه الطريق بهذا الاعتبار تابعة للطريق الأول، وهو ما أشار إليه الناظم بقوله «وللطريق الأولى تابع»، فيكون هذا متوقفا على ذاك، هذا هو الشرط الأول.
والثاني ذكره بقوله: «مع» وجوب «تحري» أي قصد «كتب من تقدما» من أهل العلم «في كل ما» أي في كل علم «من العلوم» التي «يمما» يعني قصد بالطلب وأراد فهمه والعلم به.
«فالقدماء» أي وذلك لأجل أن القدامى من أهل العلم -الأئمة المؤسسين وأصحابهم ومن على دربهم- «بالعلوم أقعد» أولى من المتأخرين -يقال فلان أقعد من فلان: إذا كان أقرب منه- «بذاك» الذي ذكره من كون القدامى أقعد بالعلوم، «تجريب» وواقع الحال «ونقل» أي ما ورد من النصوص في هذا الشأن «يشهد» يعني يشهدان، إلا أنه استغنى بصيغة الإفراد -يشهد- عن التثنية لظهور المراد.
«أما التجربة فهو أمر مشاهد في أي علم كان؛ فالمتأخر لا يبلغ من الرسوخ في علم ما بلغه المتقدم. وحسبك من ذلك أهل كل علم عملي أو نظري، فأعمال المتقدمين -في إصلاح دنياهم ودينهم- على خلاف أعمال المتأخرين وعلومهم في التحقيق أقعد، فتحقق الصحابة بعلوم الشريعة ليس كتحقق التابعين؛ والتابعون ليسوا كتابعيهم؛ وهكذا إلى الآن، ومن طالع سيرهم وأقوالهم وحكاياتهم، أبصر العجب في هذا المعنى، وأما الخبر ففي الحديث: «خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»، وفي هذا إشارة إلى أن كل قرن مع ما بعده كذلك. وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم: «أول دينكم نبوة ورحمة، ثم ملك ورحمة، ثم ملك وجبرية ثم ملك عضوض»، ولا يكون هذا إلا مع قلة الخير، وتكاثر الشر شيئا بعد شيء؛ ويندرج ما نحن فيه تحت الإطلاق.
وعن ابن مسعود أنه قال: «ليس عام إلا الذي بعده شر منه، لا أقول عام أمطر من عام، ولا عام أخصب من عام، ولا أمير خير من أمير، ولكن ذهاب خياركم وعلمائكم، ثم يحدث قوم يقيسون الأمور برأيهم، فيهدم الإسلام ويثلم»، ومعناه موجود في الصحيح في قوله: «ولكن ينتزعه مع قبض العلماء بعلمهم، فيبقى ناس جهال يستفتون فيفتون برأيهم، فيضلون ويضلون». وقال عليه السلام: «إن الإسلام بدأ غريبا، وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء؛ قيل: من الغرباء؟ قال: النزاع من القبائل؛ وفي رواية: قيل ومن الغرباء يا رسول الله؟ قال: «الذين يصلحون عند فساد الناس». وعن أبي إدريس الخولاني: «إن للإسلام عرى يتعلق الناس بها، وإنها تمتلخ عروة عروة»، وعن بعضهم: تذهب السنة سنة سنة، كما يذهب الحبل قوة قوة، وتلا أبو هريرة قوله تعالى: {إذا جاء نصر الله والفتح} (النصر) ثم قال: «والذي نفسي بيده ليخرجن من دين الله أفواجا، كما دخلوا فيه أفواجا».
وعن عبد الله قال: «أتدرون كيف ينقص الإسلام؟ قالوا: نعم، كما ينقص صبغ الثوب، وكما ينقص سمن الدابة؛ فقال عبد الله: ذلك منه»، ولما نزل قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم} (المائدة) بكى عمر، فقال عليه السلام: «ما يبكيك؟ قال: يا رسول الله، إنا كنا في زيادة من ديننا فأما إذا كمل، فلم يكمل شيء قط إلا نقص؛ فقال عليه السلام: صدقت».
والأخبار هنا كثيرة، وهي تدل على نقص الدين والدنيا وأعظم ذلك العلمُ، فهو إذاً في نقص بلا شك».(*)
يتبع..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
-(*) الموافقات، ج. 1، ص: 68-69.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *