سبرنا أغراض الإنسان، فوجدناه ظَمِئاً إلى مُلائِماتِ نفسه كيفما اتفق، ومتى اتفق، وأين اتفق، غير باحث عن ما يتبع ذلك من المضار، فأردنا أن نبين هنا حقيقة اللذة، ثم نبحثَ عن مواقعها، وننظر فيما إذا كانت لذةً دائمةً في هذا الكون الجثماني.
اضطربت آراء الناس -حتى الفلاسفة- في تشخيص معنى اللذة، وكلَّت أقلام الكتاب والشعراء دون ذلك، والذي نختار من بين كثرتها رأيان:
أولهما: يرى أن اللذة هي إدراك النفس ما يلائمها، وتراه حسناً.
وثانيهما: أنها التخلص من آلام طبيعية، أو عارضة.
ونحن إن نقدنا الأقوال، ولم نذهب مع تشعبها لا يعترضنا شك في الحق أن اللذةَ إدراكُ النفسِ ما يلائمها على ما رأى أهلُ الرأي الأول، وأَنَّ مَنْ حصر اللذة في التخلص من الألم لم يستقرئ في حَدِّها استقراءاً تاماً كما يجب أن يكون التحديد للموجودات، إنما نظر إلى نحو النوم، والأكل، والشراب من كل لذة دعى إليها احتياجٌ فطري، وضيَّق في دائرتها حتى كاد أن يُخْرِج المعارفَ كلَّها عن اللذة.
نحن لا ننكر أن أكثر اللذات لا يفارقها الشعور بمبدأ ألم، ولو بالأقل ألم الشوق إلى نَيْل ما يلائم النفس، حتى ننكر على هذا القائل قوله كله.
ولكنَّا نعلم أن من اللذات ما ينساق إلى المرء بدون فكر سابق، وربما وقع منه موقعاً لا يقعه لو كان مترقباً من قبل؛ فماذا ترون في هذا الإحساس؟!
انقسمت اللذات بحكم الطبيعة إلى ثلاثة أقسام: حسية، وعقلية، ومركَّبَةٍ منهما.
والنظر في التقسيم إلى الداعي والحاصل جميعاً، فإن كان الداعي الحس -وهو الذي تَحْصُل به- فهي الحسية، وإن كان العقل فهي العقلية، وإن كان الداعي العقل -وتحصل بالحس- فهي المركبة.
أما الحسية فأمرها خطير، ومطالبها محدودة يسهل استيفاء ما تقتضيه في الإمكان، ومتى قضى الحس منها شيئاً كان الزائد عليه عنده ألماً.
وأما العقلية فهي حركة الفكر في المعقولات التي تطمح إليها النفس، وشعوره بالحقائق التي يجد عند الشعور بها مَسَرَّةً لا يَعْدِلُها عنده شيءٌ، وهذه يجدها العقل طوعا متى بالغ في البحث وجدها منطاعة لا تقف به عند حد.
أما إن أردتم التعب الشديد، والمشقة في السرور فاطلبوا قسمنا الثالث من أقسام اللذة، أعني ما تطلبه النفس، ويقتضيه البدن، تجدون خَرْطَ القتاد دونه سهلاً، وتفرضه في المحبة الحب العشقي؛ فإن الروح إن تعلقت به لقيت في سيرها من المكدرات ما يُمَرِّر حلاوة منالها منه، وإذا كانت مطالب الروح غير واقفة عند مدى فإن سلطانَ وهمِ المحبة يتسلط عليها، فيناجيها أن تطمع باتحاد الروحين، وأن تروم المقارنة الدائمة، والرِّضا الأبدي، وهكذا يغادرها تستهتر بأماني لا يتناهى غرامها، ولا يبرد أوامها، ولكنها تجد طريق الاقتضاء هذا البدن القادر في مبدئه، العاجز في غايته، الذي تَسِمُه المداومة، وتعوقه الموانع، فماذا عساه حقق من مطالب هاتِه الروح، وكم ذا يمكنها أن تقضي من استخدامه؟ لا شك أنها سيكون لهما مثلاً في هذه الحال قول أبي الطيب:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسام
فإذا نظرنا بعدَ هذا إلى المقدار الذي يمكن الإنسان تناوله من غير القسم الثاني نجد أن لا شيء من الملاذ الحسية بلذَّة حقيقية، وإن تموَّه على عقول جمهور الناس؛ فإن هاته الملاذَّ -على ما فيها من توقف على تسويغات الدين، والصحة، والعادة، والاحتياج إلى مُكْنة الفرص- هي واقفة عند غاية.
ثم ماذا ترى عند البلوغ إلى غايتها؟ ترى الهَيْضَة إن أَكَلتْ، والامتلاء إن شَرِبتْ، والندامة إن داعبتْ، والعجز إن استزادتْ، غير أن الذي يريد أن يغض عن هذا كله، ولا يعتبر من حال اللذات إلا أوقات اقتضائها، ويقول ما الإنسان إلاَّ ابن ساعته، وما هو بمفكر في التي تليها -نقول له: انظر إليك وأنت تزعم أنك في لذاتك الحالية، وجرد عقلك مما تسلط عليه من الوهم- تجد نفسك في لذاتك كلها محتاجاً إلى معونة غيرك، وإن كنت عاجزاً عن تحضير أسباب لذاتك؛ فليتك تشعر أنك تفقد واحداً، أو ينقبض لك آخر، وفي الأقل تفكر في انتهاء اللذَّة ومفارقتها، وكيف تجدك في حالك هاته ألا تجدك كما قال الشاعر:
فأبكي إن نأَوا شوقاً إليهم وأبكي إن دنوا خوف الفراق
حكي أن الناصر لدين الله ملك قرطبة كتب بخطه أنه لم يَصْفُ له من زمان حكمه على ذلك البلد الطيب في ذلك السلطان القاهر الذي دام خمسين سنة إلا ساعات تَلَفَّق من جميعها مقدارُ أربعة عشر يوماً؛ لذلك قال الأسطوانيون (هم أصحاب زينون الفيلسوف اليوناني الزاهد المولود سنة 490 قبل المسيح) من الفلاسفة: إن الدنيا دار شقاء، وبلاء.
دعْ عنك هذا، وولِّ وجهك شطر اللذات الروحية والكمالات العقلية تجد المرء متى التذَّ بشيء منها لا يقف عند منتهى؛ فهو كلَّ الزمان مبتهج بما يعلمه من العلوم، ويستفيده من الآداب.
وهذا حال الحكيم؛ فهو دائماً ينظر نفسه؛ فيستفيد علوماً، ويلمح العالم؛ فيزداد تذكرة، وتُزْوى له الدنيا؛ فلا تهزه وهو مسرور بإقبالها، وتدبر عنه وهو مسرور بما يعلم من إخلافها، ربما نام ليلة وهو يرصد طلوع الصباح للرجوع إلى لذة التفكير التي قطعها عنه النوم، فإن حاول أمراً، أو أتم له فلا تسل عن لذته منه، وإن لم يتم فقد حَصَّل -في الأقل- معرفةَ طريقِ لا يُهدى إليه، ومتى أَلَمَّ به ضررٌ من مصاب استهون به في فائدة التجربة، كما يرى العالم النحرير؛ فيسره مرآه؛ لما ينال من علمه، كذلك يرى الأحمق الجاهل؛ فيعلمه وبالأقل يأخذ الحكمة من حاله بطريق الحضارة؛ فرب خطأ جر إلى صواب.
إذن فالحكيم لا يتنكد أبداً، وهو مسرور في كل وقت، سبب ذلك علمه بحقيقة كل شيء؛ لأنَّ هاته الدنيا -وإن كانت خضرة حلوة- فإنها تعقب تفاهةً، أو مرارة في فَم مجتنيها، ومن ثمَّ لا يوجد فيها سرورٌ متساوي الأطراف، وقد كادت مصالحها أن لا تسلم من ضرر تُخْلِفه.
وينبغي أن يكون هذا سبيل طائفة الابيكوريين( ) من الفلاسفة الذين يرون الدنيا كلها لذَّات؛ فإن رئيسهم لا يذهب عنه أن متاعبها كثيرة لغير الحكيم، ولكنه أراد اقتضاء لذاتها بقدر الاستطاعة.
جاءت شريعة الإسلام في آدابها على الحكمة الفطرية، فلذلك يكون حال المؤمن أشبه بحال الحكيم، ذلك أن الدين يأمره أن يأخذ من الدنيا ما يريد من الحلال، وأن لا يكون جازعاً عند فقدها.
وبهاته التربية التي أصلها التسليم للقدر فيما لا حيلة فيه فُقِدت المفاسد التي تنشأ عن الآلام في الأمم الأخرى من انتحار وجنون ونحوهما، قال تعالى: (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنْ الدُّنْيَا) القصص: 77.
إذا كانت النفس ميَّالة إلى لذاتها في كل حال فالعاقل لا يسمح لنفسه باقتضاء لذتها الحسية، وربما وصل العقل إلى التفكر في حال اللذة ومآلها، فرأى أَنْ لابدَّ من انقطاعها، فقطعها قبل أن تقطعه، وهو مبدأ عظيم من الحكمة، قال فيه فيلسوف الشعراء أبو العلاء المعري:
ضحكنا وكان الضحك منَّا سفاهة وحقّ لِسُكَّان البسيطة أن يبكوا
وكما ترى من نفسك استنكافاً عن بعض اللذات، وترى غيرك يرغب فيها، بل ترى من نفسك الفرق في لذاتك بين حالتي الصبا والفتوة مثلاً، كذلك لا تشك أنَّ الحكمة إنْ أشرقت على قوم ربما نزعت كلَّ هَوَسٍ من قلوبهم، فرأوا الدنيا كلها سفاسف وغروراً، كما ترى أنت اليوم الرقصَ مع الصبيان وتَلَقُّفَ الكرة جنوناً بعد أنْ كانا شُغُلَك الوحيدَ.
أُولئك هم السعداء الذين استوى عندهم الكدر والطرب -فعاشوا وقلوبهم ممتعة بإدراك الحقائق- الذي وراءه للعاقل مطلب، وهذا قسم شريف فات أبا الطيب إذ يقول:
تصفو الحياة لجاهل أو غافل عما مضى فيها وما يتوقع
ولمن يغالط في الحقائق نفسَه ويسومها طلب المحال فتطمع
وذكَّرني تشكي الناس من سوء معاملة الزمان عادة من عوائده، وهي انزواؤه لمن لا يقدر قدره، أو من لا ينتفع به، وتزلُّفه لمن عَدِم العقل والفضيلة، وأنه لا وصل إلى مقاصده وأمانيه من الحكيم بما سهلت الدنيا بين يديه لولا أن يخونه الطريق، فيضله عن كنه مقاصده، وكما ترى الجمادات تنال بدون ارتقاب ما تشيب دون نيله رؤوس الشباب، وترى الزجاج ينال من الثغور ما تتلظى دونه أرباب الأساورة والقصور، فلا تتعجب ممن قرب إلى الجمادية أن تكون الدنيا أسوق إليه، وأنها لا تدين لمن يسخر منها، وإنما تُقَرِّب من تضحك عليه.
الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
السعادة العظمى، العدد19و20،
(16) شوال 1322هـ،
المجلد الأول(304_309).