قد يتساءل المتسائلون عن البركة ما هي؟ وكإجابة نقول: البركة لها مفهومان: مفهوم ظلامي، ومفهوم لغوي ديني سليم.
1- المفهوم الأول قديم قدم البشرية، إنه مرتبط بعبادة القوى الخارقة لدى مختلف الشعوب في القارات الخمس. وهذا ما حدثنا عنه الدكتور أحمد الخشاب في كتابه “الاجتماع الديني”؛ حيث أشار إلى أن قدماء المصريين “كانوا يطلقون اسم “الكا” على كائن إلهي، وكانوا يرون أنه يتحد بالجسم بعد موته وتحلله، كما أنهم يعتقدون أنه يولد مع كل إنسان وينفصل عن الجسد وقت الموت. ولا يعود إلى الجثة إلا بعد تحنيطها والقيام بطقوس أوزيريس”.
ثم أضاف “كما نشير إلى كلمة “بركة” المستعملة في الجماعات الإسلامية، وخاصة في شمال إفريقيا حيث تتصورها العامة على أساس أنها شيء سيال مقدس يفيض من الأولياء والمرابطين. ويمتد إلى كل ما يمسه الولي من ثياب أو طعام أو شراب أو ماء. ويظل هذا الشيء عالقا بقبره، يتبرك به المريدون ويزعمون أنه عن طريقه تقضى حاجاتهم وتشفى أمراضهم”.
2- وحتى نصحح الوضع المقلوب للبركة الذي أحدثه الصوفيون، وفي مقدمتهم الطرقيون. نجد البركة لغويا تعني الزيادة والنمو. فإن كانت الزيادة هي الفائض والفضل والعلاوة. وكان النمو هو الكثرة والتعدد والوفرة. فلم لا تكون البركة عبارة عن كل هذه المعاني وزيادة؟
3- في القرآن الكريم وفي السنة النبوية لا نجد الفرق بين ما ورد فيهما عن البركة وبين المعنى اللغوي لها. قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}، والبركات هنا يراد بها المطر والنبات. إنها إذن نعم من الحق سبحانه؛ متى توفرت للمؤمنين؛ غمرتهم السعادة كلما أخلصوا لله واتقوا الشرك به، بحيث نكون هنا أمام بركتين: الزيادة في المحاصيل الزراعية (=بركة مادية)؛ وزيادة الفرح والابتهاج بعد عسر (=بركة معنوية).
وتقوي وجهة نظرنا كلمات كلها تؤدي إلى البركة أو تنتهي إليها. قال سبحانه: {أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} يعني تعاظم وارتفع، فباسمه يتبرك المؤمن، أي يطلب الزيادة في الرزق والعلم والهداية.
وقال عز وجل: {وَهَـذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ}؛ فيكون مبارك هنا صفة تعني: بورك فيه، أي في القرآن الكريم.
وقال تعالى: {حم والكِتَابِ المُبِين، إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ}؛ والليلة المباركة هنا ليلة القدر التي يتضاعف فيها ثواب من قدروا قيمتها بإحيائها. مما يعني أن حسناتهم تزداد. والزيادة لغويا ودينيا كما قلنا “بركة”.
والنتيجة أن البركة من منظور ديني، لا من منظور ضلالي؛ كانت حسية أو معنوية؛ يمكن نقلها من شخص إلى آخر، أو إلى آخرين. فالحسية تنقل عن طريق الصدقة الواجبة والتطوعية على سبيل المثال، أما المعنوية فيمكن نقلها عن طريق التعلم والقراءة والدعاء المستجاب كما يلي:
1- شيخ مدرس عالم يمد طلابه كتابيا أو شفاهيا بما منَّ الله عليه من بركاته، نقصد من علمه الغزير أو من تفقهه في الدين، خاصة وأن المعارف عبارة عن مصابيح منيرة وضاءة، إن خلت منها الأذهان ضعفت قدرة أصحاب هذه الأذهان عن الفهم والتقصي والوقوف على الحقيقة. إلا أنه كلما تضاعف عدد المصابيح في الأذهان (وتضاعفها بركة) أصبح أصحابها مؤهلين للاشتراك في التوجيه والتنوير والتبشير والنصح والإرشاد.
2- الإكثار من قراءة مؤلفات العلماء والفقهاء والمحدثين والمفسرين والأصوليين، وإن لم يحصل شرف مقابلتهم لأي قارئ لما كتبوه أو ألفوه. إذ أنهم لا شك سوف يضيفون إلى ما اشتعل في أذهانهم من مصابيح غيرها كبركة هي زيادة وكثرة ووفرة.
3- دعاء الشيخ أو المربي أو أي كان لأخيه المسلم في المقام أو في الترحال. فقد يستغفر المسلم لأخيه وقد يدعو له بالبركة، نقصد الزيادة في رزقه، أو الزيادة في عمله، أو في تحسن أخلاقه، أو في قدرته على التحصيل، تكفي استفادتنا من آيات قرآنية ومن أحاديث نبوية عدة. ففي القرآن قول الحق سبحانه: {رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}؛ وقوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}؛ وقوله عز وجل: {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ}. وفي الحديث الآتي نجده صلى الله عليه وسلم يدعو بالبركة لأهل المدينة، فقد “كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فإذا أخذه قال: “اللهم بارك لنا في ثمرنا وبارك لنا في مدينتنا، وبارك لنا في صاعنا، وبارك لنا في مدنا. اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك، وإني عبدك ونبيك. دعاك لمكة. وأنا أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك به لمكة ومثله معه”. ثم يدعو أصغر وليد يراه من أمته، فيعطيه ذلك الثمر” .
4- كما يدعو الأحياء للأحياء يدعو الأحياء للأموات، والعكس مردود لنصوص نقلية واردة في الموضوع. مثل قوله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو لأحد المؤمنين من أمته -وكل ما يدعو به بركة-: “اللهم اغفر له وارحمه، وعافيه واعف عنه؛ وأكرم نزله؛ ووسع مدخله؛ واغسله بالماء والثلج والبر؛ ونقه من الخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس؛ وأبدله دارا خيرا من داره؛ وأهلا خيرا من أهله؛ وزوجا خيرا من زوجه؛ وأدخله الجنة وأعذه من عذاب القبر وعذاب النار”.
إضافة إلى قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، وعلم ينتفع به، وولد صالح يدعو له”. مما يدل دلالة قطعية على أن الأحياء ممن تستجاب دعواتهم هم الذين ينفعون الأموات، دون أن تشترط في الداعي غير صفتين: “الإخلاص” وضده الرياء. و”الصواب” وضده الابتداع. لأن كل من اتصف بهما رجل صالح وولي من أوليائه عز وجل. وعليه فإن دعوة الجزار والفلاح، والإسكافي والحداد وأي صاحب مهنة أو حرفة أو وظيفة -كأولياء الله- دعوة مقبولة. أي أن الداعي لا يلزم أن يكون مؤدبا للصبيان، أو شيخا مدرسا يقصده للأخذ عنه عشرات الطلبة. أو أن يكون واحدا من مشايخ الطرق الصوفية في القديم والحديث.
أما أن يكون الميت هو الذي ينفع الأحياء، حيث يلتجئ إليه كل ذي حاجة وكل ذي معضلة للحصول منه على حل مضمون لها، فقمة في الضلال المبين. فضلا عن كون قاصدي المزورين المقدسين لجلب المنافع ودفع المضار يعبرون عن عقيدة تحمل في طياتها ما ينم عن الشرك بالله عز وجل، بل وقد نذهب إلى القول بأن لسان قاصديهم ينبئ من حيث لا يدرون بأنهم غير مصدقين لما ورد في القرآن بأنه عز وجل وحده هو من يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء عنه! إذ لا يعقل -والتوحيد واضح معناه- أن يصبح المربوب ربا والمعبود عبدا بأي تصور يخطر على بال أي كان!
إضافة إلى أن الفرق الذي أوضحناه بين البركة كشيء سيال يسري من الشيخ إلى المريدين الأحياء، ومنه إلى زواره في قبره بعد وفاته، وبين البركة كزيادة وكوفرة لا يسمح إطلاقا بالاستمرار في الابتداع إلى حد اعتبار هذا الابتداع من الدين. مصدره القرآن، أو مصدره سنة سيد الأنام، بينما القرآن بريء من البدع والمبتدعين، والسنة كتفسير أو كبيان للقرآن لم تتخلف قط عن ترجمة ما ورد في الكتاب المبين إلى أقوال أو إلى أفعال أو إلى تقريرات.