من الشبه التي ما فتئ يثيرها المخالفون لمنهج السلف والمناوئون له… أن الانتساب إلى السلفية أمر تتبناه طوائف مختلفة وتيارات متباينة، وأن هذا التنوع والتعدد في الأدعياء مُسقط لدعوى صحة منهج السلف من جهة، ومن جهة أخرى يحاول أعداء هذه الدعوة أن يلصقوا بها كل فعل صدر عن دعي من الأدعياء لمجرد انتسابه.
ولرد هذه الشبهة أقول:
1- وجوب اتباع منهج السلف
إن اتباع السلف أمر أوجبه الله عز وجل في الكتاب والسنة على المسلمين جميعا وبسطُ الأدلة على ذلك فوق أن يُحصر في مثل هذا المقام وحسبنا من ذلك ما يلي:
*- من القرآن الكريم
قال تعالى: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) النساء:114.
وقال: (فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللّهُ وَهُو السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) البقرة:137.
*- من السنة المشرفة
عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: “خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ..” متفق عليه.
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍوقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “وتفترق أُمَّتِي عَلَى ثَلاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلا مِلَّةً وَاحِدَة”.
ً قَالُوا:وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟
قَالَ:”مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي”رواه الترمذي وهو حسن بشواهده.
قال الإمام مالك: “من أحدث في هذه الأمة اليوم شيئاً لم يكن عليه سلفها فقد زعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خان الرسالة؛ لأن الله تعالى يقول: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلامَ دِينًا” فما لم يكن يومئذ ديناً لا يكون اليوم دينا” (الاعتصام للشاطبي 2/306).
وقال ابن أبي زيد في الرسالة: “واتباع السلف الصالح واقتفاء آثارهم والاستغفار لهم”.
2- وحدة المنهج السلفي
هذا المنهج المعصوم القائم على الكتاب والسنة بفهم سلف هذه الأمة منهج واحد، يتلقاه الخلف عن السلف، فهو المنهج الرباني الذي ارتضاه الله لعباده والذي لا يتأتى اجتماعهم ولا اعتصامهم بحبل الله إلا عليه، منهج يدعو الناس أجمعين للانتظام في سلك العبودية لله وحده وخلع كل معبود سواه، منهج لا يفرق بين عقيدة وفقه وسلوك، فالعقيدة عقيدة القرآن والسنة، والعبادة عبادة الكتاب والسنة، والسلوك سلوك الكتاب والسنة، منهج يدعو البشرية قاطبة إلى التحاكم لشريعة الله قرآنا وسنة… وترك كل ما يخالفهما أيا كان مصدره… منهج يعرف لولاة أمر المسلمين حقهم فيدعو إلى طاعتهم في المعروف ومناصحتهم والدعاء لهم وعدم الخروج عليهم، منهج يعرف للعلماء قدرهم فيدعو لاحترامهم والاستفادة منهم ولزوم غرزهم مع عدم الغلو فيهم ولا التعصب لهم ولا تقليدهم.
فالسلفية بهذا المفهوم عقد يجمع كل من كان هذا حاله من لدن النبي صلى الله عليه وسلم وإلى يومنا هذا، ومن أبرز أئمتها الإمام مالك بن أنس وحافظ المغرب أبو عمر ابن عبد البر ومالك الصغير ابن أبي زيد القيراوني وشيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم والإمام محمد بن عبد الوهاب والسلطان سيدي محمد بن عبد الله العلوي وابنه المولى سليمان والمولى عبد الحفيظ والمحدث أبو شعيب الدكالي وتلميذه العلامة محمد بن العربي العلوي والعلامة عبد الحميد بن باديس والعلامة محمد البشير الإبراهيمي والعلامة تقي الدين الهلالي…
ولا مجال للتفريق من جهة المنهج بين سلفية الحجاز (الوهابية في اصطلاح خصومها) وسلفية المغرب والجزائر (الوطنية) لأن الأصول واحدة والمنهج أوحد، وقد وُجد واقعا من يدعي الانتساب للسلفية الوطنية وقد خرج عنها متأثرا بالفكر الغربي وبالواقع السياسي والقومية العربية..، كما وُجد من ينتسب لسلفية الحجاز وقد انحرف عنها متأثرا بالخوارج أو بدعوة الإخوان المسلمين..
ولا يعني هذا أن السلفية تفرز نموذجا من البشر واحدا لا خلاف بين أفراده في دق الأمر ولا في جله، فإن هذا أمر تحيله الطبيعة البشرية وتفاوت مداركها وأفهامها قال تعالى: “فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا” الأنبياء:79.
وبيان ذلك فيما يلي:
3- الخلاف بين السلفيين
لا يخفى على عموم الباحثين في الدراسات الإسلامية أن الخلاف بين العلماء منه ما هو سائغ ومعتبر ومنه ما هو خلاف غير سائغ ومرفوض، وهذه الخلافات لا تقتصر على ما بين المذاهب الإسلامية السنية المعروفة كالأربعة، بل إنها تتعدى ذلك إلى حيز أخص وأضيق فتحصل بين علماء المذهب الواحد، فكثير مما رجحه النووي في المنهاج أو المجموع… قد خالفه فيه الحافظ ابن حجر في الفتح مع أن كلا الإمامين شافعي.
ولو أردنا أن نحصر الخلافات الفقهية الحاصلة بين علماء المذهب المالكي لخرجت في موسوعة كبيرة…
قال الباحث عبد العزيز بن صالح الخليفي في كتابه (الاختلاف الفقهي في المذهب المالكي): “كثيرا ما ينبه فقهاء المذهب إلى ورود روايتين أو أكثر عن الإمام مالك في المسألة الواحدة، وقد يبينون القول الذي رجع إليه، وتارة لا يبينون وقد يأخذ بأحد القولين عدد من الفقهاء بينما يتمسك آخرون بقول آخر، وهو ما يمثل ظاهرة الخلاف في المذهب” ص236.
قلت: وهذا الأمر ليس قصرا على المذهب المالكي وحده بل إنه يعم كل المذاهب الفقهية.
ومع هذا لا يجرأ أحد أن يطعن في مالكية أحد العلماء لمجرد هذا الخلاف، فضلا عن أن يطعن في المذهب المالكي كله.
وعليه فإن ما قيل عن الخلاف بين علماء المذهب الواحد يقال عن الخلاف بين السلفيين الذي صدق الواقع العلمي والعملي زعمهم من الانتساب للسلفية وفق أصولها وقواعدها المعروفة.
وهذا الخلاف لا ضير فيه فما زال أهل العلم يختلفون الاختلاف المعتبر، بل إن جذور هذا الأمر راجعة لعصر الصحابة رضي الله عنهم، وقد ألف الإمام بدر الدين الزركشي كتابا سماه “الإجابة لإيراد ما استدركته عائشة على الصحابة”.
على أنه لا أحد يعصم السلفيين أهل الحق من الخلاف الذي يكون منشأه الطبيعة البشرية وما يعتريها من الحسد والحقد والمعصوم من عصمه الله.
وهذا ما كان يُصطلح عليه عند العلماء قديما بخلاف الأقران، قال أبو الحسنات اللكنوي: “قد صرحوا بأن كلمات المعاصر في حق المعاصر غير مقبولة، وهو مقيد بما إذا كانت بغير برهان وحجة، وكانت مبنية على التعصب والمنافرة فإن لم يكن هذا ولا هذا فهي مقبولة بلا شبهة” الرفع والتكميل ص200.
ومن هذا القبيل كلام مالك في محمد بن إسحاق وقوله عنه دجال من الدجاجلة، وقول ابن إسحاق في مالك: اعرضوا علي حديث مالك فإني أنا بيطاره.
4- ليس كل منتسب للسلفية سلفي
ولما كان منهج السلفي بهذه المكانة والمنزلة كان من الطبيعي أن ينتسب إليه وأن يدعيه من ليس من أهله، فإن الفِطَرَ مجبولة على تمني الاتصاف بكل خير والتبرؤ من الشر، وقد قال بعض السلف: “كفى بالعلم شرفاً أن يدعيَه من ليس من أهله” وأقول على منواله:” كفى بمنهج السلف شرفا أن يدعيه من ليس من أهله”.
فالحاصل إذن أن السلفية ليست بالتحلي ولا بالتمني وإنما هي اتباع الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة وفق أصول وقواعد ومنهج ورثه الصحابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأورثه الصحابة تابعيهم واستمر توريثه جيلا لجيل إلى أن وصلنا كاملا سليما.
وعلى هذا فما أكثر المنتسبين للسلفية وليس لهم منها إلا الاسم، فإن لمنهج السلف أصولا وقواعد بينها الأئمة في مصنفاتهم، وأمثل هنا بتيارين محسوبين على المنهج السلفي والمنهج السلفي بريء منهما:
*- السلفية العقلانية: وهو منهج تأثر أصحابه بالفكر الاعتزالي القديم، وتُنسب لجمال الدين الإيراني المعروف بالأفغاني ولمحمد عبده وعند هذه المدرسة غلو في استخدام العقل لدرجة أن من الأصول السلفية المجمع عليها بين أهل السنة والجماعة والتي خالفتها هذه المدرسة “تقديم النقل على العقل”.
قال الإمام الشاطبي رحمه الله: “الواجب تقديم ما حقه التقديم وهو الشرع، وتأخير ما حقه التأخير وهو العقل، فلا يصح تقديم الناقص المفتقر حاكما على الكامل المستغني، فهذا خلاف المعقول والمنقول” الاعتصام بتصرف.
قال محمد عبده: “اتفق أهل الملة الإسلامية إلا قليلا ممن لا يُنظر إليه على أنه إذا تعارض العقل والنقل أُخِذ بما دل عليه العقل” الإسلام والنصرانية ص59.
*- السلفية الجهادية: وهو منهج تسربت إليه أفكار الخوارج القدامى، فعرف أصحابه بالغلو في التكفير وبالذات تكفير من حكم بغير ما أنزل الله إجمالا -بعيدا عن التفصيل المنضبط الموروث عن السلف في التفريق بين حاكم وحاكم-، وإعلان الجهاد على ولاة أمر المسلمين والخروج عليهم وهذه أصول تجعل المتلبس بها مفارقا لمنهج السلف بعيدا عنه وإن زعم أنه سلفي وما الفتن التي غرق فيها العالم الإسلامي من تفجير وتخريب إلا ثمرة لهذا الفكر الهدام.
ولقد كان لعلماء السلفية وطلبتها في المغرب جهود لا تدانيها جهود في رد شبهات هذا التيار فقد كانت تعقد المجالس تلو المجالس لصد المتأثرين بالتكفير والخروج وللتاريخ أقول: إن هذه الجهود على تواضعها قد حققت ما لم يحققه الجهازان الرسميان الأمني والعلمي.