لمحة عن الرسم العثماني (قانون كتابة القرآن الكريم) حمّاد القباج

 

الرسم العثماني هو قانون كتابة القرآن الكريم؛ وهي كتابة خاصة تخالف في مواطن الكتابة العادية التي يسميها العلماء قياسية؛  فقد قسموا الكتابة إلى ثلاثة أقسام:

1 الخط القياسي

2 الخط العروضي

3 الخط العثماني

فالقرآن كلام الله؛ لذلك كان له قانون خاص لتلاوته؛ ألا وهو: علم التجويد، وقانون خاص لكتابته؛ ألا وهو: علم الرسم، وما يكمله من علم الضبط …

 

فما هو علم الرسم؟

هو علم كتابة كلمات القرآن كما كتبها الصحابة في خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه؛ ولذلك يسمى: (الرسم العثماني).

وقد حافظ المسلمون على رسم الكلمات في المصاحف على نحو ما رسمت في المصاحف العثمانية، وشكل ذلك الرسم ظاهرة اعتنى بها علماء القرآن، وكُتّاب المصاحف، وعلماء اللغة، واختص بدراستها: علم رسم المصحف.

ولم يحظ الرسم العثماني بتلك العناية والاهتمام؛ لأنه أثر تاريخي يرجع إلى عصر النبوة والخلافة الراشدة فحسب؛ ولكن أيضا لأنه صار “هو الركن الأعظم في إثبات القرآنية للقرآن”؛ كما قال الشوكاني (إرشاد الفحول)[1].

لقد نص العلماء على أن رسم القرآن يمثل نظاما إملائيا مستقلا، ونمطا هجائيا خاصا.

وقالوا: “من المعلوم أن خطين لا يقاسان: خط العروض، وخط المصحف، وإنما يتبع الرسم تعبدا وتبركا واقتداء بالصحابة الكرام كتابة أو قراءة”[2].

وقد نص جمهور الفقهاء على أن هذا الرسم توقيفي:

سئل الإمام مالك: “أرأيت من استكتب مصحفا اليوم، أترى أن يكتب على ما أحدث الناس من الهجاء؟ فقال: لا أرى ذلك، ولكن يكتب على الكتبة الأولى.”

قال أبو عمرو الداني: “ولا مخالف له في ذلك من علماء الأمة”.

ونص الإمام الجعبري على أن ما ذهب إليه مالك هو مذهب الأئمة الأربعة.

وجاء في الفقه الحنفي: أنه ينبغي ألا يكتب بغير الرسم العثماني

وجاء في الفقه الشافعي: إن رسم المصحف سنة متبعة.

وقال البيهقي في شعب الإيمان: “من يكتب مصحفا فينبغي أن يحافظ على الهجاء الذي كتبوا به تلك المصاحف ولا يخالفهم فيه، ولا يغيروا مما كتبوا شيئا؛ فإنهم كانوا أكثر علما وأصدق قلبا ولسانا، وأعظم أمانة منا”.

الحكمة والتعليل في الرسم العثماني

وإذا كان رسم المصحف الشريف توقيفيا؛ فلا بد أن لهذا الرسم حكما وأسرارا.

وهو ما جزم به ابن البناء المراكشي؛ مؤكدا أنه توقيفي؛ وأنه ليس للصحابة فيه ولو شعرة واحدة[3].

من هنا قال أحد المتخصصين في الرسم: “كما أن القرآن معجز في فصاحته؛ فخطه معجز أيضا”.

وإلى هذا المعنى أشار الشيخ محمد العاقب الشنقيطي دفين فاس رحمه الله تعالى بقوله[4]:

والخط فيه معجز للناس      ……..      وحائد عن مقتضى القياس

لا تهتدي لسره الفحول  ……..   ولا تحوم حوله العقول

قد خصه الله بتلك المنزله    ……..     دون جميع الكتب المنزله

ليظهر الإعجاز في المرسوم   ……..      منه كما في لفظه المنظوم

 

وفي الأثر: “كتاب الله: فيه نبأ ما قبلكم، وخبر ما بعدكم، وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل، ..وهو حبل الله المتين، وهو الذكر الحكيم، وهو الصراط المسقيم .. الذي لا تنقضي عجائبه.

هو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: (إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به).

من قال به صدق، ومن عمل به أجر، ومن حكم به عدل، ومن دعا إليه هدى إلى صراط مستقيم”.

فالقرآن الكريم يعطي لكل زمان بعض أسراره وعجائبه، ويكشف جوانب من حِكَمه وإعجازه؛ ومن ذلك ما شرحه علماء الضبط من أسرار رسم المصحف العثماني.

لقد تحدث علماء الإسلام عن “الحكمة والتعليل” في أفعال الرب جل وعلا؛ وأبرزهم الإمام ابن القيم الدمشقي (ت 799 هـ) في كتابه: “شفاء العليل في مسائل القضاء والقدر والحكمة والتعليل”.

وتحدثوا عن “الحكمة والتعليل” في شريعة الله تعالى؛ وأبرزهم الإمام أبو إسحاق الشاطبي (ت 643 هـ) في كتابه: “الموافقات”.

وتحدثوا عن “الحكمة والتعليل” في رسم كلام الله سبحانه؛ وأبرزهم الإمام ابن البناء المراكشي (ت 721 هـ) في كتابه: “عنوان الدليل من مرسوم خط التنزيل”.

إن للرسم أسرارا وعجائب بالغة وحكما باهرة، جهد بعض العلماء نفسهم في استنباطها، واستخلاص ما خفى منها.

قال شيخنا الدكتور توفيق العبقري: “وإلى هذا الموقف ينتمي جمهور علماء المسلمين”.

يقول الدكتور صلاح الخالدي في كتابه (إعجاز القرآن البياني): “ولم يأت ذكر الحرف في موضع وحذفه في موضع آخر قريب منه مصادفة، وإنما جاء لحكمة مقصودة، تقرر المعنى المراد، وتحقق الإعجاز البياني الرفيع. إذا ذكر الحرف في آية كان ذكره مقصودا، لتحقيق حكمة مرادة، حكمة لفظية بلاغية ومعنوية تفسيرية، وإذا حذف ذلك الحرف في آية أخرى قربة من الآية السابقة، كان حذفه مقصودا، ولتحقيق حكمة مرادة أيضا، لفظية ومعنوية.

وقد وضح الدكتور فاضل السامرائي هذه الظاهرة العجيبة، وتعرض لها في كتابيه (التعبير القرآني) و(بلاغة الكلمة في التعبير القرآني). ويقول: “قد يحذف في التعبير القرآني من الكلمة نحو (استطاعوا) و(اسطاعوا)، و(تتنزل) و(تنزل)، و(تتوفاهم) و(توفاهم)، و(لم يكن)و(لم يك)، وما إلى ذلك، وكل ذلك لغرض وليس اعتباطا. فالتعبير القرآني تعبير فني مقصود، كل كلمة، بل كل حرف إنما وضع لقصد[5].

ويرى الدكتور العبقري بأن بعض التعليلات تحمل وجها من التكلف ظاهر.

قال: “فهذا وإن وجد في بعضها، فلا شك في أن بعضها الآخر لا يعدم نصيبا من الوجاهة والمنطق والحجة”[6].

——————————————

[1]   الإعجاز القرآن في الرسم العثماني / عبد المنعم شعير ص: 5-6

[2]  الرسم القرآني / توفيق العبقري ص: 59

[3]  عنوان الدليل لابن البناء

[4]  الإعجاز القرآن في الرسم العثماني / عبد المنعم شعير ص 3.

[5]  الإعجاز القرآن في الرسم العثماني / عبد المنعم شعير 16 / 18

[6]  الرسم القرآني / توفيق العبقري ص 77

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *