الحمد لله الذي لا يحمد سواه، ولا يلجأ وقت الضرِّ إِلاَّهُ، أحمده سبحانه بجميع المحامد والثنايا، وأقر بما أسبع علينا من جميل المكارم والعطايا، وأصلي وأسلم على من جعل محبة أهل العلم واتباعهم سراجا للنبوة والهداية، فأفاض في الاهتمام بهم بكثير من الأحاديث والأخبار والوصايا.
وبعد؛ فما كان يجول بخاطري يوما أن اكتب في شيخي الفاضل، وناصحي الأمين فضيلة الشيخ المقرئ عبد الوهاب بشري، هذه الأسطر التي أحاول فيها رد شيء من جميله عليَّ الذي أثقل به كاهلي من النصح والتوجيه والإرشاد والتسديد، لأملي أن وجوده لا زال ممتدا بيننا، وصوته ما فتئ يشنف أسماعنا، ولكن الموت يأتي فجأة، وقد كنت خَطَطْتُ يوم وفاته كلمات زفرت فيها لوعتي بفراقه، وَسَطَّرْتُ فيها أبياتا
لوداعه، وأرسلتها لذويه وإخوانه، وها أندا أجدد ذكرى الفراق والوداع، بخط هذه الأسطر السراع، تلبية لطلب بعض الأفاضل؛ وإلا فالقلب بفراقه لمحزون ولا نقول إلا ما يرضي الله.
كان أول لقائي بالشيخ الفاضل؛ لما تقلدت مهام الإمامة بمسجد المتقين بمدينة زايست الهولندية، حيث استضفته لإلقاء محاضرة بالمسجد في إطار الأنشطة الشهرية للمسجد فجاءني ملبيا، وسرني ما وقفت عليه من عظيم الخصال وجميل الكلام، مع كبير التواضع والإجلال للأئمة، عارفا بالقراءات ووجوهها، متخصصا في شاذها ومشهورها، إذا قرأ يعطي لكل حرف مخرجه ومقامه، فتجد طلبته وكأن على رؤوسهم الطير من مهابته وشديد احترامه، يتوسطهم وقد تحلقوا حوله في دائرة كبيرة.
اغتنمت فرصة تواجده بمكتبي بالمسجد؛ فقرأت عليه الفاتحة وأواخر سورة البقرة برواية ورش عن نافع من طريق الأزرق.
وظل التواصل بيننا لا ينقطع وكلما نظمنا دورة أو احتفالا؛ إلا وكان أول الحاضرين مع أعز صديق له في هولندا الشيخ الخمار البقالي حفظه الله.
ولما تقلدت مهام الإمامة والخطابة بمسجد الإسلام بلاهاي، حرصت على حضوره في المسجد في كل الأنشطة التي نقوم بها، بل إنني وبفضل مِنَ الله وَمِنَّةٍ أنشأت ما عرف بالكراسي العلمية، فخصصت للفقيه عبد الوهاب بشري كرسيا سميته كرسي الإمام الجزري كان يلقي فيه درسينشهريا؛في علم التجويد يشرح فيهما متن الجزرية، وكرسيا للسيرة النبوية سميته كرسي الإمام السهيلي، كان يلقي درسه الفقيه عبد السلام البقالي، وكنت ألقي دروسا في شرح الحديث بكرسي سميته كرسي الإمام البخاري، وقد لاقت هذه الدروس صيتا واسعا وحضرها جمهور غفير.
ولما أعلمتُ الشيخ بشري بما خَصَّصْتُ له من كرسي بمسجد الإسلام فرح رغم كونه سيتجشم عناء السفر من روتردام إلى دينهاخ لإلقاء هذا الدرس، ولم يبال بالتعويض المالي عنه.
ولد الشيخعبدالوهاببنالعيدبنعبدالوهاببنبومدينبنعليبشريالجرسيفيمنقبيلةالشرفاءأولادالوليالصالحسيديعليبوشنافة،الذي ينتهي نسبه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ سنة 1949م الموافق لـ 1368ه، فيمكانيعرفبالظهرالابيضبمدينةجرسيفشمالشرقالمملكةالمغربية.
كَلَّفَهُ والده العيد بن عبد الوهاب برعي الغنم لما بلغ ست سنوات، بينماأرسل أخته الصغيرة لحفظ القرآن الكريم في الكتاب،علىيدالفقيهامحمدالورايني، وكانت كلما رجعت أخته من الكتاب سألها عن حفظها اليومي من القرآن الكريم من شدة شوقه لحفظه، لكنه لمقام أبيه عنده لم يجرؤ على مفاتحته بالأمر. حتى فاتح أعيان القبيلة والده في التحاق عبد الوهاب بالكتاب فوافق.
بدأ حفظالقرآن الكريمعلىيدالفقيهامحمدالورايني، وأتمه على يد الفقيه امحندالمصلحوي الذي لا يزال على قيد الحياة ليومنا هذا، ثم توجه للفقيهين امبارك الجبلي وامحمدالتاوريرتي فختم عليهما ختمة ثانية للقرآن الكريم، فضبطه ضبطا تاما ولم يكن يتعد الأربعة عشر خريفا.
رحل لمنطقة بني حسان قرب مدينة تطوان من أجل استكمال طلب العلم على يد الفقيه المهدي محمد شقور العلمي الحساني، وهناك التقى برفيق دربه الفقيه الخمار البقالي، فتعلما الفقه وأصوله والنحو وضروبهوالقرآن وعلومه، لما يربو على الست سنوات، كما كان يزور العارف صاحب الكرامات العجيبة سيدي عبد السلام بوجنة في بيته مع الشيخ الخمار ولهما معه قصص عجيبة.
بعد مسيرة حافلة بشمال المغرب رجع الشيخ لقريةصاكاالتيتبعدعنجرسيفبحوالي 50كيلومترا، فتقلد فيها مهام الإمامة سنة 1972م،ثمبعدهابقليلعينإماماوخطيبابمسجدالنجدبمدينةجرسيف.
وفي سنة 1979م انتقل إلى هولندا لتقلد مهام الإمامة بمسجد النصر بمدينة روتردامفقضى فيه اثني عشرة سنة، وكان ذلك بإيعاز من صديقه المقرب ورفيق الطلب والتحصيل الشيخ الفقيه الخمار البقالي، يحدثني الشيخ البقالي عن ذلك قائلا: “انتقلإلىهولنداعام 1979 ليكونإمامًافيمسجدالنصربروتردامحيثطلبونيللإمامةقبلهولميكنلدىّجوازالسفربعد،فأحلتهمعليهفرفض؛وبعدإلحاحيعليهقبلذلك”.
ثم التحق به الشيخ البقالي حيث تقلد الإمامة بمسجد المحسنين بلاهاي، ثم بعدها انتقل لمسجد الإسلام وهو المسجد الذي تقلدت الإمامة فيه بعده.
فكان الشيخ عبد الوهاب رحمه الله والخمار البقاليحفظه الله؛ منأوائلالأئمةالمغاربةالذينتحملواعاتقتربيةأجيالالجاليةلعقود، وكاناهماالنواةالدعويةالمغربيةالأولىفيالديارالهولندية.
بعد قضاء اثني عشرة سنة بمسجد النصر بمدينة روتردام انتقل بعدها خطيبا بمسجد إبراهيم الخليل بمدينة ماسلاوش وظل بها خطيبا إلى آخر خطبة ألقاها يوم الجمعة التاسع من أكتوبر 2020 ثم بعدها بأسبوعين التحق بالرفيق الأعلى.
كانت له همة عالية وعزيمة قوية في النهل من معين العلم والتزام الفقهاء، فزار الشيخ المقرئ العلامة أيمن رشدي السويد وأجازه، ووقفت على إحدى إجازاته لبعض تلامذته وفيها أنهأجازه الشيخ سعيد بن محمد بحذيفي في رواية ورش عن نافع من طريق الشاطبية بتوسط البدل مع تقليل ذوات الياء، وكان يذكر لتلامذته أنه درس عند الكثيرين.
تتلمذ على يديه الكثير ولازمه بعضُ من أعرف كالفقيه سعيد الدوائري وأجازه في رواية ورش عن نافع من طريق الشاطبية، وفي موطأ مالك من رواية يحيى بن يحيى الليثي، والفقيه محمد بالعزيز إمام مسجد بمدينة روتردام والفقيه العربي بالعربي إمام مسجد بمدينة خاودةوغيرهم كثير.
أقبل على بث ما يحوزه من العلوم والمعارف، فجعل من منزله بهولندا مجلسا للعلم يلتقي فيه بطلابه وتلامذته، فكان يُدَرِّسُ فيه المرشد المعين لابن عاشر في الفقه،والعاصمية وأصول الورقات في الأصول، ولامية الأفعال في الصرف، وتحفة الأطفال والدرر اللوامع في التجويد، والجوهر المكنون في البلاغة، ثم نقل هذا المجلس لجامعة روتردام التابعة للأتراك ثم نقله إلى معهد الهدى بأمستردام الذي يشرف عليه الشيخ عبد الإله العمراني.
ولم يقتصر الشيخ عبد الوهاب على تعليم القراءات ورواية الحديث بالديار الهولندية فقط، بل تعداها إلى بعض الديار الأوروبية كبلجيكا وإسبانيا، وعقد دورات علمية مع المجلس العلمي لجرسيف، وساهم بماله لإنجاح الكثير من المشروعات القرآنية بموطن رأسه، حيث خصص جزءا كبيرا من ماله ووقته لإقامة دار الإمام مالك ودار القرآن حمرية بمدينة جرسيف، وَحَرَّضَ المحسنين على تبنيهما والقيام عليهما، حتى أصبحت مدينة جرسيف قبلة لطلاب العلم وحفظ القرآن.
لميشغلهاهتمامهبمدينتهعنمتابعةودعمدورالقرآنفيمدنأخرىكدارالقرآنبدبدو، يقول أخوه الدكتور مصطفى بشري: “وكانتعبهفيكلذلكمصدرراحةنفسيةكبيرةلهومصدرإلهاملكثيرمنالمحسنينوأهلالقرآن”.
كانت أول زيارة له لبيت الله الحرام سنة 1980م لأداء مناسك الحج ثم بعدها تعددت زياراته ورحلاته للديار المقدسة.
كانت للشيخ معرفة واسعة بالكتب والمطبوعات، حريصا على مساعدة طلاب العلم، سألته يوما أن يجلب لي كتابا من المغرب فأخبرني أنه لا يباع إلا في مكتبة معينة بطنجة، وأن عنده منها مجموعة يمكنني تصويرها متى أردت، يحدثني أخوه الدكتور مصطفى قائلا: “تركالشيخعبدالوهابإرثامهمامنخطبالجمعةومنالدروسوالرسائلفيبعضالمسائللكنلميسعفهالوقتلتصنيفهاوترتيبهاأونشرها،إذ كان كل همهنشرالعلمبينالناسوالجلوسإليهموالتربيةوالإفتاءوالقيامبأمورالمسلمينفيبلادالمهجر”.
توفي رحمه الله شهيدا بوباء كورونا المستجد يوم الجمعة السادس من ربيع الأول عام 1442ه الموافق لـ 23 أكتوبر 2020م على الساعة الثانية عشر بمستشفى فرانسيسكو بروتردام (ZiekenhuisFranciscusGasthuis in Rotterdam ) وغُسّل على الساعة التاسعة ليلا بنفس المستشفى وكان من غسله أخوه الدكتور مصطفى بشري والفقيه عبد الإله العمراني ومغسل الأموات بهولندا أحمد الهشطي،ودفن من الغد بالمقبرة الإسلامية بألمير(Islamitischebegraafplaats “Raza Ul MawaAlmere ) بعد أن صلى عليه الجنازة رفيقه الفقيه الخمار البقالي بعد صلاة الظهر بمسجد النصر بروتردام.
كان من كراماته وعلامات حسن خاتمته رحمه الله أنه قبل وفاته بدقائق لا يقوى على الكلام لضيق شديد في مجرى تنفسه ويلبس قناع الأكسجين، وعندما أزال عنه الطبيب القناع قال بصوت عالي ومرتفع “أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله” بقوة أدهشت الحاضرين ثم مات بعدها.
ومن كراماته أيضا أنه استحال دفنه يوم السبت لعدم جاهزية أوراق الدفن، فأجل الدفن ليوم الاثنين، لكن بقدرة قادر جهزت أوراق دفنه صباح يوم السبت ودفن يومها.
ومن كراماته أيضا دفنه بالمقبرة الإسلامية بألميرلإمتلائها، وكانت تبعد عن مكان صلاة الجنازة بحوالي 90 كيلومترا، واشترط للدفن فيها التواجد بالمقبرة قبل الساعة الثالثة ظهرا، فيسر الله سهولة في الطريق لم تعهد قبلا، فدفن بالمقبرة في الوقت المضبوط.
ومن كراماته أنه علاه نور وهالة عند تغسيله، يحكي لي مغسله أحمد الهشطي أنه على كثرة من غسلهم لم ير مثل ما رآه عليه من النور والوقار والهيبة والهالة النورانية وكأن الملائكة تحيط به.
فرحمه الله رحمة واسعة وجعل مقامه في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وأجدها فرصة لشكر الدكتور مصطفى بشري أخو الشيخ عبد الوهاب والشيخ الخمار البقالي رفيق دربه والشيخ سعيد الدوائري أبرز تلامذته، ومغسله أحمد الهشطيعلى معلوماتهم القيمة لإنجاز هذه الترجمة المتواضعة في حق علم من أعلام بلاد المهجر، فما كتبته ودبجته حلة متناسقة لما حدثوني وأخبروني به عن الشيخ الفاضل عليه رحمات الله.
وقد قلت فيه يوم بلغني نعيه:
جَاءَ النَّذِيرُ لِنَعْيِ شَيْخٍ مَا تَبْغِي وَالوَقْتُ شُؤْمٌ فَأَعْلَمَنِي بِوَفَاةِ شَيْخٍ فَسَالَ الدَّمْعُ مِنْ عَيْنِي هَمْراً وَأَظْلَمَتِ الأَرْضُ لِفَقْدِهِ وَمَالَهَا فَاللَّهُمَّرَبِّي أَوْدَعْنَاكَ عَلَماً وَأَنِرْ ظُلْمَتَهُ فِي قَبْرٍ ضَمَّ أَعْظُمَهُ |
فَقَصَرْتُ الطَّرْفَ لَهُ بِارْتِيَابِ بِوَبَاءٍ مَا تَرَكَ طَرْقَ بَابِ؟ كَانَ لِي عَوْناً فِي اغْتِرَابِ لِنَعْيِ الشَّيْخِ عَبْدِ الوَهَّابِ لاَ !وَقَدْ غَابَ عَنْهَا حَافِظُ الكِتَابِ فَكُنْ لَهُ عَوْناً يَوْمَ الحِسَابِ وَوَسِّعْ مُدْخَلَهُ وَاكْفِهِ بِجَزِيلِ الثَّوَابِ |