أمية الرسول وكتابة الأحجبة والتمائم الدكتور محمد وراضي

عندما نتحدث عن أمية الرسول صلى الله عليه وسلم، فإننا لا نقصد غير شيئين: كونه لا يكتب، وكونه لا يقرأ. أما كونه مصدرا لعلم الشريعة بعد القرآن الكريم، أما كونه على بينة تامة مما أوحي به إليه، أما كونه على الصعيدين النظري والتطبيقي بخصوص خطاب الله الذي تولى مسؤولية تبليغه، فلا جدال في أنه بحر من علوم الدين الذي لا تكدره الدلاء. يكفينا قوله سبحانه -والخطاب موجه إليه- “وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ”.
والنتيجة التي نسعى نحن وراءها هنا في غاية الوضوح؛ فصحة المقدمات، تقتضي صحة النتائج. فمن لا يقرأ ومن لا يكتب، لا نعتقد إطلاقا بأنه وراء كتابة الأحجبة والرقى والتمائم، أو التعويذة والتعزيم، أو ما شئنا من مسميات لما يحمله معه الشخص في عنقه أو على كتفه، أو يبخربه، أو يلقى به في نهر راكد أو جار! أو يدفن في المقابر، أو في أمكنة أخرى يحددها الراقي، أو يعمل على أن يمس بها أحدهم أو إحداهن لكسب القلوب، أو لإحداث أضرار تصب في مصلحة المترددين على من نعتبرهم في البداية وفي النهاية مجرد مشعوذين أفاكين! درجتهم في ارتكاب الذنوب أو الآثام، تصل إلى درجة الدخول في الشرك، الذي يتقاسمه معهم قصادهم في الوقت الذي يحسبون أنفسهم لا زالوا بتوحيد رب العالمين متمسكين!
فإن نحن برهنا على أن كتابة الأحجبة أو باقي مسمياتها، لم تكن من فعل الرسول، ولا من قوله، ولا من تقريره، فهل هذا يعني أن ذكرها لم تتناوله السنة، لا من قريب، ولا من بعيد؟ أي أن كتابتها من ضمن المسكوت عنه المندرج تحت مطلق المباحات، كأية ممارسة خارج نطاق التحريم والكراهة والندب؟
إن الرسول -وهو على بينة مما يجري حوله- لم يتخلف عن التنصيص على الأفعال التي تشوه التوحيد وتؤدي بمتعاطيها إلى الشرك. فالتحذير منها ومن نظائرها تزخر به سنته. إنها لم تغفل الكلام عن الكهان والسحرة والعرافين والمنجمين والمشعوذين!
فعن ابن مسعود نروي هذه الحجة البالغة: “سمعت رسول الله –صلى الله عليه وسلم- يقول: إن الرقى والتمائم والتولة شرك”.
قال الخطابي: “كان عليه السلام قد رقى ورقي (بضم القاف)، وأمر (بالرقية) وأجازها. فإذا كانت بالقرآن وبأسماء الله فهي مباحة أو مأمورا بها. وإنما جاءت الكراهة والمنع فيما كان منها بغير لسان العرب. فإنه ربما كان كفرا أو قولا يدخله الشرك”!
وقال السيوطي: “أجمع العلماء على جواز الرقى عند اجتماع ثلاثة شروط: أن تكون بكلام الله أو بأسمائه وصفاته، وباللسان العربي، وما يعرف معناه. وأن يعتقد أن الرقية لا تأثر بذاتها، بل بتقدير الله تعالى”.
وكلام الخطابي والسيوطي هنا لا بد من إضافة توضيحات ضرورية عليه:
1- الرقية تجمع على الرقى (بضم الراء وفتح القاف) تعويذة يرقى بها المريض، أو تكتب وتعلق على الإنسان لتقيه من روح خبيث، أو شر العين كما يقال. أو لتدفع عنه الخطوبة والحسد والكوارث.
2- لا يرى الرسول أي مانع من استعمالها عند الضرورة أو في كل الأحوال، قصد دفع أي بأس يخشى خطره على الإنسان. لكن الرسول صلى الله عليه وسلم كما نعرف لا يقرأ ولا يكتب، مما يعني أن الرقية عنده تنحصر في قراءة بعض القرآن وبعض الأدعية المفهومة على المريض، أملا في أن يعجل الحق سبحانه بشفائه أو بتجنيبه مصيبة تنغص عليه حياته حتى ولو لم تنزل به بعد، وذلك من باب دفع البلاء قبل وقوعه. مما يتضح لنا معه كون الالتجاء إلى الرقية الشرعية تعبير صادق عن الإيمان بقدرة الله التي لا تحدها حدود، كلما توجه إليه عباده المخلصون بالدعاء، في أي وضع كانوا؛ وفي أي مكان؛ وفي أي زمن.
3- إن مذهب الرساليين بإطلاق يقوم على الإجابة المتوقعة كلما طرح هذان السؤالان: ما الأفضل في الدين: قول الرسول وفعله وتقريره؟ أم قول وفعل وتقرير غيره فيه؟
وبما أن الإجابة بالنسبة إلى كل مسلم صادق، أضحت بديهية، مسلم بها عقلا ونقلا بدون ما اعتراض، فإن أي ادعاء بجواز كتابة الرقى ليحملها معه من كتبت له، يعد في نظرنا استدراكا على الرسول الذي عمل طوال زمن بعثته على إبعاد أي خطر يتمثل في أنواع من الممارسات التي تشوه التوحيد وتمهد للشرك به عز وجل.
فإن اختلف الصحابة والتابعون من بعدهم بخصوص جواز تعليق التمائم التي هي من القرآن وأسماء الله وصفاته، حيث قالت طائفة منهم بالجواز. وفي مقدمة ممثليها: عبد الله بن عمرو بن العاص. بينما قالت طائفة بعدم جواز تعليقها. وفي مقدمتها: عبد الله بن مسعود. فإننا مع هذه الطائفة الثانية التي ينسجم رأيها أولا مع الحديث النبوي المتقدم. وينسجم ثانيا مع ما اعتبرناه منذ حين مذهب الرساليين المتسننين. وهو الذي يؤيد بقوة كونه صلى الله عليه وسلم لا يقرأ ولا يكتب. وبالتالي لا يستسيغ أي قول وأي فعل وأي تقرير ديني صادر عن غير صاحب الرسالة الخاتمة.
ورأينا هذا المتكامل مع رأي عبد الله بن مسعود، يؤيده الشيخ محمد حامد الفقي حيث قال: “هذا هو الصحيح لوجوه ثلاثة تظهر للمتأمل، الأول: عموم النهي (النبوي المتقدم)؛ ولا مخصص للعموم. والثاني: سد الذريعة (أصل من أصول مذهب مالك)؛ فإنه يفضي إلى تعليق ما ليس كذلك (أي ليس بقرآن ولا بأسماء الله ولا بصفاته)! الثالث: أنه إذا علق؛ فلا بد أن يمتهنه المعلق بحمله معه في حال قضاء الحاجة والاستنجاء ونحو ذلك”!
وقد وصل الأمر بالكثيرين ممن ضلوا وأضلوا إلى حد تأليف كتب موضوعاتها متشابهة، من حيث المحتوى، الذي لا يخرج عن ادعاء التخابر مع الجن! والتحكم فيه! وطرده من المساكن التي هي في سياقنا أجساد بعض الآدميين! ودفع المضار! وجلب المنافع! والتوسل بحروف وبأسماء ذات خاصيات تمكن مستخدميها من تجاوز أية عقبة منتصبة في وجه أي كان! ومن هنا جاءت الاستعانة بالمشعوذين لإنجاز مهمات تبدو لقصادهم صعبة التجاوز. وأن إسناد التغلب عليها إلى كتاب التمائم المنتشرين في بلدنا كالوباء، كفيل بإيجاد حلول مرضية. ولم يفلت من الوقوع في شباكهم حتى كبار المسؤولين في الدولة! وما بالنا بصغارهم متى ركزوا أعينهم على الترقي، من سلم إلى آخر يعلوه بدرجة، أو حتى بدرجات، حسب شطارة المشعوذ، وفتوح المستفيد من تفننه في قهر العوائق واقتحام العقبات!
ولنثر الانتباه هنا إلى أن المتصوفة المتوغلين في وضع قواعد الفكر الظلامي الديني، لهم اليد الطولى في تحريف الرقى الشرعية عن الأهداف التي لم تكن تخرج -كي تتم الاستفادة منها- عن الالتجاء إلى الله وحده. لا إلى النجوم والطلاسم التي هي عبارة عن حروف وأرقام غامضة مبهمة، يستعملها الساحر أو الدجال، ويزعم أنه يدفع بها كل ما هو مؤذ عن المشتكي أو عن المشتكية!
يكفي الاطلاع على بعض مضامين كتاب “اسم الله الأعظم: شرحه وفوائده ومجرباته” لمؤلفه: عبد الفتاح السيد الطوخي المصري، لمعرفة الدور الخطير للضلاليين المبتدعين في تغيير مدلول الرقى الذي ربطناه ونربطه بقدرة القادر وحده سبحانه على الفعل والترك والعطاء والمنع!
يقول الرجل الظلامي الضال والمضل: “ثم لتعلم أيها المريد الصادق! والأخ الجهبذ الذائق أن مذهب هذه الطائفة (=المتصوفة وكتاب الأحجبة)، وخصوص مشايخ طريقتنا القادرية، والسادة النقشبندية، الاعتماد في علوم الأسرار من الحروف والأسماء وغيرها على الوهب والفتح (كلام يحتاج إلى تفسير)!
وطريقها الخاص عندهم الكشف والتلقي عن عالم الملكوت(!!!)، ويعتمدون في ذلك على همم المشايخ وعناياتهم، وما يلقى إليهم على ألسنة الهواتف وأرواح الأنبياء(!!!)، وخواص الأولياء(!!!)، والعمدة عندهم إنما هي على مجرد ذكر الأسماء الحسنى والآي العظام. وإن أخذوا في بداياتهم طرفا من علوم الأوفاق والأشكال وأسرار الحروف، وبلغوا فيها الغاية لقوة الهمم وصفاء الأرواح، فعند التمكن ينسلخون من تلك الرسوم، ويكتفون بمجرد الأسماء” يقصد أسماء الله عز وجل.
لكن المتصوفة، أو المشعوذين الذين يعتمدون الأسماء بإطلاق، لا أسماء الله تعالى وحده في إنجاز التمائم على الأوراق وغيرها مما يكتب عليه، لا يهمهم التوحيد الخالص في شيء. فأغلبهم -كما اطلعنا على شأنهم عن قرب- يضعون التقوى وراء ظهورهم! بينما يضعون أمامهم ما ينتهي إلى جيوبهم من فتوح المخدوعين! هذا إن كانوا يتمتعون بقدر من الإيمان الذي يستلهمونه في زعمهم لقضاء أغراض قصادهم، ممن لا يرون بأسا في طلب عون من أشباه الكهان والسحرة والعرافين!
ولنقرأ في الكتاب المذكور قبله بعضا من ظلام المشعوذين المبين: “وهذا الحرف لقلب النفوس من البغضة إلى المحبة (يقصد حرف الياء). فمن أراد ذلك فليصور صورة من أراد في رق نقي، ويكتب فيه اسمه! ويكتب معه أيضا هذا المربع على هذه الهيأة (المربع موجود أمامنا) ويدخل عليه به، فتنقلب نفسه من البغضة إلى محبة بعون الله تعالى وفضله! ومن كتب شكلا مربعا وفيه ستة وعشرون ياء، وحمله معه، أمن من شر الجن والمردة، وكان في حرز الله تعالى. وهذه صفة رقمه المبين (شكل مستطيل محشو بأعداد من حروف الياء)!!!
والحال أننا لم نقم بقلب صفحات كتب أخرى شبيهة بكتاب “اسم الله الأعظم” الذي أخذنا منه هذين النموذجين السيئين المبتدعين! بينما نحن نقول -بعيدا عن كل التواء، وعن كل تبرير نبيح به التعاطي مع التعاويذ والتعزيمات- ما كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يفعله فعلناه، وما حذرنا من فعله تجنبنا فعله، وتبرأنا بالتالي ممن يفعلونه.
يكفينا هنا قوله -وهو الصادق المصدوق-: “إن الرقى والتمائم والتولة شرك”!!!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *