العلمانيون بين النصوص والمقاصد سلطان البنوي

من يفحص ويرصد الواقع العلماني وخاصة منهم الذين يحاولون التقريب بين أفكارهم المستوردة وبين الشريعة الإسلامية، يجدهم يكثرون من التشويه والتلفيق في كتاباتهم وأطروحاتهم الفكرية التي تحاول تفكيك المفاهيم والقيم الإسلامية في بنية النسيج الاجتماعي الإسلامي، واستبدالها بنسخٍ ملفقةٍ من الاتجاهين الإسلامي والعلماني، أملاً منهم في صُنع نماذج معرفية علمانية تساعدهم على تحقيق طموحاتهم وأمنياتهم، فبعد أن يتم ترشيد السلوك والوجدان الإنساني عبر زخمٍ تغريبي علماني متعدد القنوات، يحكم الناس من خلال ذلك الترشيد العلماني على المفاهيم والأنظمة الوافدة بأنها من مفردات الحقل المقاصدي الإسلامي عندهم.
بهذا الأسلوب نجد العلمانيين يتعاملون مع مقاصد وكليات التشريع الإسلامي، بحيث يجردون المقاصد والكليات من جزئياتها وأنظمتها الشرعية، فيفرغون المقصد الكلي من نظامه وجزئياته، فيكون التوجه والطلب إلى المقصد الكلي المجرد دون التوجه والطلب إلى الجزئيات، ثم يجعلون ذلك المقصد الشرعي في نظام ٍ غير نظامه الأصلي، لكي يضفوا على النظام العلماني المستورد ثوباً إسلامياً خالياً من الاعتراضات، فلنضرب مثالاً توضيحياً لذلك، نجد أن من مقاصد التشريع في النظام السياسي الإسلامي (الحرية) كما ذكر ذلك ابن عاشور في مقاصده، حينئذ يتعامل العلمانيون مع هذا المقصد الكلي (الحرية) بطريقة تخرجه من نظامه السياسي الإسلامي ليجعلونه في نظامٍ ديمقراطي لا يمت للإسلام بأي صلة، فيدّعون بعد ذلك أن الديمقراطية وسيلة إسلامية تحقق المقصد الكلي للشريعة، وهكذا يتم تشويه المقصد الكلي، وتُستبعد النصوص الجزئية الموصلة إليه.
ولنفهم العلاقة المتبادلة بين النص الجزئي والمقصد الكلي، ينبغي أن نطرح سؤالاً، وهو: إذا خرج المقصد الكلي من نظامه وجزئياته الشرعية إلى أنظمة وجزئيات أخرى، فهل يُطبق ذلك المقصد على أرض الواقع تطبيقاً صحيحاً أم لا؟
إن الإنسان العاقل يستطيع أن يدرك الكليات والمقاصد التي تُسعده وتعينه في حياته الدنيا، من مثل العدل والمساواة والحرية وغيرها، لكنه لا يستطيع وضع تلك المقاصد والكليات في أنظمة وجزئيات تحققها بطريقة صحيحة خالية من الأخطاء والتجاوزات البشرية المعتادة، ثم إن الكليات لا تعمل في الفراغ؛ فهي كامنة في الأذهان وليس في الواقع الخارجي، وإنما تعمل من خلال أنظمة وجزئيات تجعل ذلك المقصد الكلي ممكناً وواقعياً، وإذا كان الإنسان لا يستطيع أن يجعل الكليات في أنظمة خالية من التجاوزات البشرية المعتادة، أنزل الله له الدين الإسلامي مكتمل البنيان، شاملاً للجزئيات الموصلة للمقاصد والكليات.
وفي هذا السياق يقول الإمام الشاطبي رحمه الله في الموافقات 2/ 96-97: (..الجزئيات لو لم تكن معتبرة مقصودة في إقامة الكلي؛ لم يصح الأمر بالكلي من أصله، لأن الكلي من حيث هو كلي لا يصح القصد في التكليف إليه، لأنه راجع لأمر معقول لا يحصل في الخارج إلا في ضمن الجزئيات، فتوجهُ القصد إليه من حيث التكليف به توجهٌ إلى تكليف ما لا يطاق، فالقصد الشرعي متوجه إلى الجزئيات… فانحتم القصد إلى الجميع، وهو المطلوب) اهـ.
والعلمانيون أثناء طرحهم لأفكارهم يستندون للإمام الشاطبي رحمه الله جهلاً منهم بنصوصه، وتدليساً عليه، وذلك بسبب اهتمامه رحمه الله بالمقاصد الشرعية أكثر من غيره من العلماء، ثم يهجمون على الإمام الشافعي رحمه الله لاهتمامه بطرق الاستدلال من النصوص الجزئية التي تقيد وتضبط استدلالاتهم المنحرفة فلا يستطيعون الخروج عنها.
وهكذا نعلم أن النص الجزئي والمقصد الكلي معتبران ومقصودان في التشريع الإسلامي، فالجزئي يعمل لإقامة الكلي، والكلي يعمل من خلال الجزئي، وكذلك هي الشريعة الإسلامية نهجٌ متكامل، ومنهجٌ مترابط، ونظامٌ شامل، يهتدي به الناس في دروب حياتهم الحالكة والمتعبة فينير الله لهم السُبل والطرق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *