رسالة إلى الأساتذة بمناسبة بداية السنة الدراسية فؤاد الدكداكي

أساتذتي الأعزاء اسمحوا لي أن أخاطبكم -والخجل يلف وجهي- بهذه الكلمات، التي أرجو أن تكون منبهة للغافل ومذكرة للناسي. ومحركة لهمة من فترت همته.

إننا مقبلون على بداية سنة دراسية جديدة. وإن نجاح تعليمنا لن يأتي من فراغ وإنما يأتي من قيامنا بأسباب النجاح المادية والمعنوية، وقد تحدث الناس كثيرا عن التجهيزات اللازمة للمؤسسات التعليمية وبينوا النقص المفرط في مؤسساتنا، وانتقدوا المقررات وطرق التعليم المنتهجة في مدارسنا..
وأنا لا أقلل من هذا كله، لأن نجاح المنظومة التعليمية يقتضي القيام بكافة جزئياتها. فهي سلسلة مترابطة إذا انخرم منها عقد أحدث خللا في المسيرة التعليمية. بيد أني أرى أن الأستاذ هو قطب الرحى في المنظومة التعليمية، فما عسانا أن نفعل بالبنايات الشامخة والتجهيزات الحديثة والحواسيب المتنقلة إذا كان الأستاذ خالي الوفاض أو كان دني الهمة أو فيه زغل العقيدة.
إن الأستاذ في المنظور الإسلامي ليس آلة لحمل المعرفة فقط، وإنما هو إنسان مربّ ومعلم مهما كانت مادته، وإلا أحدث انشراخا لدى التلاميذ وبلبل أفكارهم. وزعزع مبادئهم.
أساتذتي الأعزاء لا يخفى عليكم فضل العلم، فلقد تواترت النصوص في فضله، وتكاثرت أقوال أهل العلم في بيان منزلته، وتبارى الشعراء في مدحه وتفنن الأدباء في وصفه.
قال تعالى: “قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ” (الزمر:9). ثم ترك الجواب لوضوحه أي لا يستوون.
وقال سبحانه: (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَات) (المجادلة:11). وقال سبحانه: (وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ) (العنكبوت:43).
وعندما أراد الله سبحانه أن يستشهد على ألوهيته استشهد بالعلماء: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ)، والرسول صلى الله عليه وسلم عندما بدأ دعوته بدأ بالعلم؛ لأن الله قال له: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ) (محمد:19) قال البخاري في الصحيح، فبدأ بالعلم قبل القول والعمل.
وفي الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث أصاب أرضا، فكان منها أرض طيبة -وعند مسلم: نقية- قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكان منها أرض أجاذب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فسقوا وزرعوا.. وكان منها طائفة إنما هي قيعان لا تمسك ماءً ولا تنبت الكلأ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه ما بعثني الله به فعَلِم وعَلَّم، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به). (رواه البخاري في كتاب العلم ومسلم في الفضائل).
ما أحسن اللفظ!
بالله لفظك هذا سال من عسل **** أم قد صببت على أفواهنا العسلا
أم المعاني التي قد أتيت بها **** أرى بها الدر والياقوت متصلا
ومن أراد معرفة المزيد من فضل العلم فعليه بمفتاح دار السعادة للإمام ابن القيم ففيه ما يكفي وزيادة.
أساتذتي الأعزاء.
إن وظيفتكم أشرف الوظائف، وإنكم بناة الأمة ومعدوا جيل المستقبل، لذلكم فإن مهمتكم لا تعطي أكلها إلا إذا كانت مصحوبة بما يلي:
1- الإخلاص : فنطالب به جميعا أساتذة وطلابا، مفتين وعلماء، ملوكا وأمراء، فكل مسؤول وكل مسلم يطالب بالإخلاص “أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ” (الزمر:3). (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ)” (البينة:5). “إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى” رواه البخاري ومسلم..
وقال صلى الله عليه وسلم: “من تعلم علما مما يبتغى به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضا من الدنيا لم يجد عرف الجنة وإن عرفها يوجد من مسيرة أربعين عاما” صحيح الجامع الصغير.
ويقول صلى الله عليه وسلم: “من تعلم العلم ليجاري به العلماء ويماري به السفهاء فليتبوأ مقعده من النار”.
وأول من تسعر بهم النار يوم القيامة عالم تعلم العلم ليقال عالم، فيسحب على وجهه فيلقى في النار، فنعوذ بالله من الشهرة لغير وجه الله ونعوذ بالله من الرياء، والسمعة. “فمن راءى راءى الله به، ومن سمع سمع الله به”.
2- أما المسألة الثانية فهي القدوة: ويشترط في المربي أن يكون قدوة، نعم لأنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيا خليفة رسول المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ إن الأنبياء لم يورثوا درهما ولا دينارا، وإنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر، أنت الآن تحمل الميراث..
فالله الله في شباب الإسلام..
الله الله في جيل الإسلام..
والله الله في بلادنا وامتنا وبيوتنا…
إنك أيه الأستاذ المسئول عن هذا الجيل.. فقد عرضوا أذانهم وأسماعهم وأبصارهم وأياديهم يسمعون ماذا تقول، جلسوا أمامك أمانة وضع المسلمون على الكراسي أفلاذ أكبادهم يسمعون منك وهم يتوجهون بأمرك، فهل آن لك أن تكون قدوة تتكلم بما تفعل، وتفعل بما تتكلم به، قال تعالى: (أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُون) (البقرة:44).
يا أيه الأستاذ إن العقلاء من التربويين حتى من غير المسلمين يقولون: إنك لن تعلم أحدا حتى تعمل بما تعمل. والرسول صلى عليه وسلم ما تكلم فحسب، بل كان يقول للناس كونوا صادقين فيكون أصدق الناس.. كونوا بارين فيكون أبر الناس…كونوا أوفياء فيكون أوفى الناس.. كونوا متقين فيكون أتقى الناس لربه تبارك وتعالى.
فيا أيها الإخوة الفضلاء ويا أيها الأساتذة النبلاء إن من يتكلم ثم يهدم ما تكلم بأفعاله، فإنه لا يحقق نتيجة لأبناء المسلمين.. إن ارتياحه في بيته أفضل وأولى.. إنه يضحك على العلم.. وعلى رسالة العلم وعلى طلبة العلم… كيف يأمرهم بالصلاة وهو لايصلي؟! كيف يأمرهم بهجر الغناء والمجلات الخليعة والأغاني الماجنة والسفه وهو سفيه مطبل مغن ماجن؟ نعوذ بالله من ذلك.
3-المسألة الثالثة: أن يظهر الأستاذ أو المعلم بمظهر القوة العلمية لأن قوة الأستاذ عند جميع الأمم بما فيهم المسلمين هي في طريقة عرضه للمادة عرضا متينا جيدا مؤهلا.. فحينها يحترمه الطلاب.. وحينها يجلونه لأنهم يجلسون أمام رجل يتكلم بجدارة.. أمام أستاذ له أصالة وعمق.. يتكلم وهو أدرى بمادته.. ويتحدث من مركز القوة ولذلك فإن الأساتذة الذين يملكون قدرات في التحضير هم أهيب الناس عند الطلبة يحترمونهم ويقدرونهم، والأستاذ الذي لا يحمل مادة ولا رسالة ولا تحضيرا هو من أخفض الناس في امتلاك القلوب وفي الهيمنة وفي التسلط المقبول على الطلبة.
4- أما المسألة الرابعة: فهي اللين واطراح الفظاظة. فأقول للأستاذ إن خيطا ليس فيه حب مع الطالب لهو خيط مبتور ومقطوع. وإن رسالة ليس فيها لين رسالة عصا وسوط ونار وحديد وهي ليست من تراث محمد صلى الله عليه والله وسلم.
يقول الله تعالى في المعلم الجليل: )فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران:159). ويقول له )وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال:63) ولذلك أقول لدعاة الإسلام؛ ولأساتذة الإسلام؛ ولعمداء الكليات في الإسلام.. إن رسالتنا لابد أن تحمل الإيمان والحب والطموح واللين للناس.. نحن لسنا مجرحين وإنما دعاة.. ولسنا قضاة وإنما نحكم على الناس بما ظهر لنا.
إن الكلمة اللينة طيبة تعشقها القلوب وتحبها النفوس.
تلك بعض الصفات اللازمة التي يطالب بها الأستاذ إن هو أراد النجاح أما سوى ذلك فسنظل نلوك الكلام ونردد الشعارات السابقة والواقع هو هو.
(إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ) (هود:88).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *