سعى الغرب منذ زمن بعيد إلى اختراق المجتمع الإسلامي عبر عدد من الاستراتيجيات والخطط، بدأها باستخدام القوة العسكرية؛ ثم سرعان ما فطن إلى صعوبة هذا المنحى، فاتجه إلى تدعيم الجانب الاستشراقي، فشجَّع الباحثين لدراسة كل ما يخص الإسلام وأهله، ومنه نفذ إلى العالم الإسلامي، واستطاع خلال فترة وجيزة تجنيد عملاء له من نبي جلدتنا، فأصبحوا دعاة له ومتحدثين باسمه.
ثم تطور الأمر بعد ذلك وتحول من طور الدراسة والتنظير إلى طور العمل والتنفيذ، فقامت عدة دول غربية بإنشاء فروع لجامعاتها ولمدارسها في العالم العربي والإسلامي، ومن ثم استقطبت إليها عددا كبيرا من أبناء المسلمين، وأخذت في نفث سموم التغريب فيهم، عبر مناهجها الموجهة.
ومن أبرز الأمثلة على ذلك ما تقوم به فرنسا منذ زمن من خلال البعثة العلمانية الفرنسية، والبعثة العلمانية الفرنسية هي إحدى المؤسسات الفرنسية غير الربحية، التي تهدف إلى نشر اللغة والثقافة الفرنسيتين في العالم وبخاصة من خلال نظام تعليمي علماني يقوم على التبادل الثقافي، وهي تدير قرابة 125 مدرسة (تضم 47.000 طالب) في نحو 30 بلدا وفي دول البحر المتوسط (حيث يوجد 70% من مدارسها) وفي الولايات المتحدة والخليج.
وفي العاصمة القطرية الدوحة تدير البعثة العلمانية الفرنسية المدرسة الفرنسية القطرية “ليسيه فولتير Lycée Voltaire”، وقد افتتحها في 10 يناير 2008م نيكولا ساركوزي الرئيس الفرنسي في ذلك الحين، يرافقه وزير التعليم جزافييه داركوس.
وكانت المدرسة قد افتتحت بناءً على طلب قطر ويدرس بها حاليًا 700 تلميذ 40% منهم من القطريين، والباقي من اللبنانيين والمصريين والمغاربة والجزائريين والتونسيين، وكان الغرض من افتتاح هذه المدرسة محاولة الإمارة القطرية الانفتاح على جميع الحضارات والثقافات.
وعلى خلفية تدخل الإمارة القطرية المتكرر في مناهج المدرسة (وهو ما ترفضه البعثة العلمانية) قررت الأخيرة مغادرة قطر، حيث ذكرت صحيفة “لوفيجارو” التي تناولت الموضوع أنه منذ عام 1956م وحرب قناة السويس في مصر لم يسبق لبعثة علمانية فرنسية أن طردت من بلد، وأضافت أنه بحلول نهاية شهر دجنبر الحالي فإنه يتحتم على الجمعية التي تدير مدرسة “ليسيه فولتير” بالدوحة منذ عام 2007م مغادرة البلاد.
والغريب في الأمر أن مثل هذه المدارس تصر إصرارا عجيبا على الانفراد بوضع المناهج ومنع تدخل الدول التي تتواجد بها في أي من مناهجها التعليمية حتى لو تعارض الأمر مع ثقافة البلد ودينه وحضارته، وهذا فيما يبدو هو السبب الرئيس وراء قرار البعثة بترك الدوحة.
وكانت مجلة “لو نوفيل أوبسرفاتور” الفرنسية الأسبوعية سبق لها أن ذكرت أنه منذ عام ونصف العام منعت قطر كتاب التاريخ والجغرافيا للصف الأول الإعدادي، والذي يغطي الحقبة من بداية العصر المسيحي وحتى العصور الوسطى، وهو الأمر الذي أغضب إدارة المدرسة، غير أنه -وللأسف الشديد- أعيد مرة أخرى بعد سحبه.
كما أنه بالتوازي مع ذلك تم إحلال كتاب جديد للغة العربية يمزج بين تعليم اللغة، وبين الدين محل الكتاب القديم وهو يستهل بآيات من القرآن الكريم، وهو أمر مخالف لمنهج البعثة العلماني، الذي يرى الفصل بين مناهج التعليم وبين الدين سيما الإسلام.
والسؤال الآن لماذا يرضى المسؤولون في بلداننا العربية والإسلامية عن تواجد مثل هذه المدارس في بلاد المسلمين، والتي لا هدف لها سوى تغييب الهوية الإسلامية عن حياة أطفالنا، وإحلال قيم الغرب ودينه ولغته محل ذلك؟
ولماذا يصمت الدعاة والمثقفون عن مثل هذه الأمور، في الوقت الذي يعاني فيه المسلمون أشد المعاناة إن أرادوا إنشاء مسجد أو مدرسة أو مركز ثقافي في أي من بلاد الغرب، وفي الوقت الذي يعاني فيه المسلمون أيضا من هجمة شرسة في الغرب عامة ومن عداء ممنهج من قبل الشعوب والحكومات الغربية؟
ثم ما العائد على الطفل المسلم من مناهج تغريبية غربية لا تراعي قيما ودينا ولا أعرافا، ولا هَمَّ لها إلا زرع الولاء للغرب والرجل الغربي في قلب هذا الطفل، ومن جانب آخر لماذا لا تقوم الدول العربية والإسلامية باتباع نفس السياسة ونشر ثقافتنا ولغتنا وقيمنا في الغرب من خلال إنشاء جامعات إسلامية ومدارس موجهة لهذا الغرض.
مركز التأصيل للدراسات والبحوث