إضاءات من معاني “وقفات للعقل والروح” الطاهر بلقائد

إن القارئ لصفحات كتاب “وقفات للعقل والروح” لكاتبه الدكتور عبد الكريم بكار لا يمكن إلا أن ينوِّه بتنوُّع ما يحتويه مِن أفكار ومعانٍ جليلة، فهو عبارةٌ عن رسائلَ أسبوعية، كتبها الدكتور للمشاركين في القائمة البريدية لموقعِه الشخصي، استُقبلت استقبالًا طيبًا مِن قِبَلهم، ما جعله يُخرجها في الحلَّة التي عليها الآن.
وأكثر ما يجذبُك إلى الكتاب بساطةُ ألفاظه التي تتسرَّب إلى القلب بسرعةٍ هائلة، وتلقى قَبولًا حسنًا من الطباع السويَّة، بالإضافة إلى الأسلوب المباشر الذي يعتمده في غالب الأحيان، وعمق أفكاره ومفاهيمه التي تلامس مختلف المواضيع المهمة والمتعلقة بالأفراد والجماعات في جميع مناحي حياتهم.
يضم الكتاب بين دفتَيْه مجموعةً من الأفكار النيِّرة التي تُعطِي الزاد للإنسان، وترسمُ له الطريق الواضح لتحقيق النموذج الإنسانيِّ المنشود.
وفي الوقفة القصيرة التي قمتُ بها مع هذا الكتاب في بعض محاورِه ومواضيعه، تناسَلَت مجموعة من الخواطر في خلدي، وأنا أتصفَّح صفحاته واحدةً تلو الأخرى، في لذَّة لا نظير لها، تفتح أمامك عالم الأفكار للبسط والمناقشة، بدا لي أن أُدلي بملاحظات مهمة في هذا السياق:

الملاحظة الأولى: أهمية توطين الإنسان لنفسه
أقصد به أن يختارَ الإنسان ما سيكون عليه في حياته، وإلى أي الأصناف سينتمي، وهو ما نبَّه إليه الرسول صلى الله عليه وسلم حين قال في الحديث الذي رواه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه: (لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسَنَ الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسَنَ الناس أن تُحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا)؛ رواه الترمذي.
فتوطين الإنسان لنفسِه يحدِّد له البوصلة التي سيسير وَفْقَها: أيكون من الصالحين أم من الطالحين، والكاتب أشار إلى خيرة أصناف الناس التي يجب على الإنسان أن يجتهد ليكون ضمن أحدها، وهي أصناف ينتفع منها الفرد والمجتمع، ويتعدَّى خيرُها إلى غيرها، “هم بركة الأمة ومِلحها ورواؤها، وإن من الحرمان حقًّا أن يجد المرء نفسَه بعيدًا عنهم، منغمسًا في هموم صغيرة ومُتَع زائلة”؛ كما يقول الكاتب.
وتدورُ بين الإنسان الحامل للمشروع، وهو إنسان مؤمن بقضيةٍ وفكرة معينة، يضيء حياةَ الآخرين من خلالها، ويكون علمًا لهم على الخير والحق.
والإنسان المؤسس للمشروع إنسان خدوم، يدرك جيدًا قيمةَ العمل الجماعيِّ والمشترك؛ لذلك يُؤسِّس مشروعًا يكون مشرفًا عليه مع مجموعة أخرى؛ لتعمَّ الفائدة، ولتضافر الجهود في الوصول إلى النتائج المرجوَّة.
والإنسان المشارك إنسانٌ قد لا يملك قدرات للقيادة وتأسيس المشاريع، لكن يملك قدرات خاصة؛ مالية، فكرية، مهارية…، تؤهله للمشاركة في التخطيط والتنفيذ، والمساهمة في إنجاح المشاريع النافعة والفعَّالة.

الملاحظة الثانية: سلبية تعميم الأحكام القيمية
ذلك أن تعميم الأحكام القيمية على الأشياء والأشخاص من السلبيات والأدواء التي يمكن أن تصيب المرءَ، وقد انتشرت عند بعض الناس بشكل مهولٍ جدًّا، حتى صارت عادةً لدى بعضهم، وعند إمعان النظر إلى هذه الآفةِ الخطيرة التي تنتشر بسرعة، نجدُها ترجعُ إلى إسقاط الإنسان لتجرِبته الشخصية على الأحداث والأماكن والشخوص؛ حيث يحكم من خلالها، فيعمِّم الحالة والموقف وحتى النتيجة التي يمكن أن تحدُث معه على الجميع.
كما يرجع إلى إصدار الحكم في حالة غضب أو سرور شديدين، وذلك أن الشخص حين يمرُّ بموقف إيجابيٍّ في منطقة معينة، يصدر حكمًا عامًّا، وهو مسرور، بإيجابية المنطقة، والعكس صحيح، إذًا فالمسألة كلُّها ترجع إلى تمثُّلات الأشخاص حول شيء معين، يُصدرون من خلاله أحكامًا عامة.

الملاحظة الثالثة: مقومات التربية السليمة
تعدُّ تربية الأبناء إعدادًا وبناءً للأجيال القادمة؛ كونهم الخلف للسلف في الأسر والمجتمعات؛ لذلك تكتسبُ أهمية كبرى تستدعي معها اختيار أصوب الوسائل في سبيل تحقيقها، والكاتب تكلَّم عن أمرين مهمينِ للإنسان المقبِل على فعل التربية أو الممارس له من الوالدينِ والمدرسينَ وغيرهم؛ هما:
1- تعلُّم أدبيات تربية الأبناء بدراسة الثقافة التربوية، فكل فعلٍ كيفما كان يحتاج إلى فلسفة تُعَقْلِنه، وتضعه في مجال التطبيق السليم بعيدًا عن العشوائية والفوضوية.
إن التربية تحتاجُ إلى فهمٍ عميق للفعل التربويِّ مِن قِبَل الآباء، وتعلُّم أساليب ذلك، وتوظيفه؛ حتى تقوم على أسس سليمة ومبادئ معقولة؛ كمبدأ التدرج، والإقناع، والحوار المستمر، والصحبة الدائمة للأولاد، فيجب أن يلمس الابن في أبيه وأمه ذاك الصديقَ الذي لا يمكن أن يجدَه في مكانٍ آخر، بذلك يشعرُ بالراحة التي تؤهله إلى تقبُّل -باقتناع شديدٍ- كلَّ توجيهات الآباء.
وإن من المهم الإشارة إلى أن الموجِّه للتربية هو التوجيهات الربانيَّة المنصوص عليها في كثير من الآيات وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، وكذا سيرته وتوجيهاته في هذا الصدد.
2- اختيار البيئة السليمة لتربية الأبناء، فالمكان والبيئة المحيطة بالإنسان تشكل حيزًا كبيرًا في اختياراتِه وتوجُّهاتِه، والنبي صلى الله عليه وسلم حين أشار إلى أن (كل مولود يولَد على الفطرة، فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه)؛ رواه البخاري كان في حقيقة الأمر ينبِّه إلى أهمية المحيط في تشكيل الإنسان وصناعة قناعاته التي ستصحبه في الحياة كلِّها باعتبارها موجِّهاتٍ له.

الملاحظة الرابعة: ماهية الصراع الحقيقي
يعيشُ الإنسان تحديات كبرى في حياته، تتعلَّق بما هو داخلي وما هو خارجي، لكن التحدِّي الحقيقيَّ الذي تكون معه المعارك الأساسية بالنسبة للأفراد والجماعات والمؤسسات -كما تحدَّث عنه الكاتب- صراعٌ من نوع آخر؛ صراع مع النفس؛ أي: مواجهة أهواء وأدواء الذاتية والنفس، بدءًا مِن الشخص والمجتمع إلى الدول ككل، فجُلُّ النكسات التي تُصِيب الناس والمجتمعاتِ غالبًا ترجع إلى المشاكل الذاتية والشخصية المتعلِّقة بكل مكون على حدةٍ، ومحورُ التغلب عليها يبدأ من قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ الرعد:111، معناه أن التغيير أيَّ تغيير يبدأ من الفرد، ومنه تتسع الدائرة لتشمل المحيطين، فالمجتمع فالدول…، وهكذا، ومسلك ذلك الرجوع إلى النفس والاعتراف بأدوائها السلبية، فهو بداية حقيقية لإصلاحها؛ حتى يتسنَّى لها معرفة مكامن الخلل.
ولنا في مهمة الطبيب خير قدوة، فهو يشخص المريض قبل علاجه، وبذلك يعطينا المنهج القويم الذي نسلكه لدواء أمراضنا التي سطت على قلوبنا ونفوسنا وفرضت علينا صراعًا مستمرًّا معها.

الملاحظة الرابعة: قوة الكلمة سلاح ذو حدَّينِ
يقول عبد الكريم بكار: “بدايات الحروب كلام، وبدايات السلام كلام، وإن للغة في حياتنا دورًا أكبر مما نعترف به في العادة”.
إن للغة والبيان فعلًا دورًا مهمًّا في الحياة، وتدبير العَلاقات بين الأفراد والجماعات، فهي البداية لكل شيء، إنْ خيرًا “بدايات السلام كلام”، وإنْ شرًّا “بدايات الحروب كلام”، فهي سلاح ذو حدَّينِ، يرجع الدور فيها بالأساس إلى الإنسان، فيمَ سيُوظِّفها؟ أفي ما يسعد الناس ويفتح باب السلام والخير أمامهم، أم العكس تمامًا؟
كم من الناس وهبهم الله سحرَ البيان وقوة الكلمة، واستطاع بها أن يغير ويصلح، أوَّلُهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم؛ حيث كانت في يده رحمة وهداية للعالمين، ينتشلُهم بها من ظلمات الجهل والقهر والتخلف إلى أنوار العلم والخير والحق.
فالكلمة تُشكِّل في حياتنا دورًا كبيرًا أكثر مما نتصوَّره، فهي مِفتاح لكل شيء؛ لذلك كان الخطاب موجَّهًا إلى الإنسان لتهذيبها وحسن توظيفها، يقول ربنا عز وجل: ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ البقرة: 83، توجيهٌ رباني بمعاملة الناس بلطفٍ، مبدؤها بالكلمة الحسنة والقول الطيب، فهي مِفتاح القلوب للتراضي والمحبة، وهي مفتاح لتدبير العَلاقات والاختلافات، وهي في الأخير مفتاح للحياة تفتح أمام الإنسان الحياة على مصراعيها.
كانت هذه الملاحظات أهم ما استوقفني في مباحث هذا الكتاب الطيب الموسوم بـ”وقفات للعقل والروح”، وإلا فالكتاب زاخرٌ بحمولات فكرية وعلمية وبمعانٍ ثقيلة جديرة بالقراءة والتأمل، فهي إذًا دعوة مفتوحة “القلوب تشيخ فأَحْيوها بالقراءة” لمطالعته واستخراج دُرَره، ومناقشتها وتوسيع النظر فيها، والعمل على توظيف ما جاء فيه من النصائح في الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *