بداية ينبغي أن نلفت انتباه القارئ الكريم، أن إجراء تحقيق عن موسم “سيدي علي بن حمدوش” وما يصاحبه من طقوس خرافية شركية ليس بالأمر الهين، أما أن تلتقط صورا فهذا يعد من رابع المستحيلات، حتى إنني ومرافقي تفاجأنا على غير عادة الأضرحة التي قمت بزيارتها بوجود حراس خاصين يلبسون لباسا مميزا كتبت عليه عبارة أمن الضريح، مما يدل دلالة صريحة على أن هؤلاء السدنة غير مستعدين للتفريط في صندوق النذور والهدايا والأموال والقرابين التي ألفوها، وبالتالي فهم يحاولون الحفاظ على مكتسباتهم ومصالحهم بأي وسيلة من الوسائل، ولن ننسى تلك المرأة التي أرغت وأزبدت وتوعدتني بإخبار رجال السلطة، وجُرمي الوحيد عندها أنني حاولت أن آخذ صورة لجمهرة من النساء وهم في حالة هستيرية لحظة رقصهم وغنائهم بصحبة فرقة حمادشة.
بعدما انتهيت من تسجيل ملاحظاتي ومشاهداتي حول ما يجري داخل فضاء ضريح “سيدي علي بن حمدوش”، شاهدت أسفل جبل رجالا ونساء يستحمون بالتناوب في حجرة صغيرة أعدت لذلك، وبجانبهم شموع مضاءة في عز النهار، وتلك حكاية طقوس أخرى سنتعرف عليها في الحلقة القادمة إن شاء الله تعالى.
لقد مر معنا في الحلقة الماضية أن “موسم علي بن حمدوش” تمارس فيه طقوس عجيبة، من أغربها تقديم الذبائح إلى ما يسمى بلالة عيشة مولات المرجة، وهذه القرابين عبارة عن قطعان من الماعز والنعاج العجفاء الهرمة البينة هزالها، والتي تقتات على المزابل والقاذورات.
الطقوس الخرافية والشركية عند تقديم القرابين “للالة عيشة”
والسؤال الذي نود الإجابة عنه حتى نبين وقوع الناس في الكثير من الشركيات والخرافات، هو:
ما هي نوعية الطقوس الخرافية والشركية التي تمارس لحظة تقديم القرابين “للالة عيشة”؟
بمجرد مغادرتنا ضريح “سيدي علي بن حمدوش” سألنا أحد أبناء المنطقة الذي ظل يرافقنا طوال مشوار رحلتنا ويجيبنا عن جميع تساؤلاتنا بدون ضيق أو حرج، وقد صرح لنا من خلال الكثير من إجاباته، أنه غير راض على ما يمارس في هذا الموسم من سلوكيات شركية ولا أخلاقية تسيء لسمعة البلد، ويتمنى أن يأتي اليوم الذي تقبر فيه مثل هذه العادات والأعراف الجاهلية ويقذف بها في مزابل التاريخ.
قبل أن نتوجه صحبة مرافقنا إلى مكان تواجد ما يسمى “بلالة عيشة مولة المرجة”، تبادر لذهني في البداية أننا سائرون صوب قبة ولية من الأولياء، لكن ونحن نقترب من الهدف الذي ننشده لم نجد أي مظهر للقباب والأضرحة، وفي المقابل شاهدت مجموعة كبيرة من العرافات اللواتي احتجزن مساحة كبيرة، كل واحدة منهن تفتح دكانها على شكل خيمة تستقبل فيه عددا كبيرا من الضحايا السذج الذين يصدقون بسهولة أكاذيب الكهان، وإمعانا في الدعاية لأعمالهن القذرة وضعن لوحات مكتوبة بخط اليد يعلنّ فيها نوعية الخدمات التي يقدمنها من [إبطال ثقاف وربط وتعكاس وفك وإبطال السحر وإزالة التوكال..].
ومما يثير الانتباه ويطرح ألف علامة استفهام أن أولئك العرافات لا يشتغلن في سرية وتكتم، بل إن أكثرهن يعملن في وضح النهار بدون مضايقات أمنية، فرجال الدرك يغضون الطرف عن العرافات، في تواطئ فاضح مخل بالشرع والقانون..
قبل أن تبدأ النسوة بممارسة تلك الطقوس الشركية لابد من اجتياز مراحل عديدة أولها: ولوج خيمة العرافة، هذه الأخيرة تقترح عليهن أن يتقدمن بنوع من الذبائح حسب ما تطلبه “الشريفة لالة عيشة” تبعا لأوامر العرافات اللواتي يتكلفن بالإخبار بالطلب، بعدئذ يذهبن إلى دكاكين العشابة لشراء أطباق من الحلوى والسكر والشمع والحليب والحناء وبعض مواد التجميل النسائية، ثم يعرجن على أماكن بيع الماعز والأغنام حيث يقمن بشراء الرأس الواحد منها بثمن يتراوح مابين 400 و1200 درهم، ومن كان فقيرا معوزا فلا يكلف نفسه فوق استطاعته، إذ بإمكانه أن يشتري ديكا أو دجاجة تناسب حالته المادية.
بعد هذه المرحلة يتم كراء إحدى الفرق الموسيقية كناوة أو عيساوة أو احمادشة، بثمن يتراوح ما بين 400 و500 درهما، تتقدم هذه الفرق مجموعة من الشباب والشواذ والنسوة يضعن على رؤوسهن أطباقا من الفضة محملة بالهدايا المقدمة “للشريفة لالة عيشة”، وتتألف هذه الهدايا من الشموع وماء الزهر والبخور المتنوعة والحليب والسكر والحناء، ويتوسط المجموعة صاحب أو صاحبة القربان التي غالبا ما تضع على رأسها لباسا أبيضا تحيط به عصابات صفراء أو خضراء مع ممارسة جذبات متتالية، وتتحير على الأنغام المختارة، ولما يصل الموكب إلى فضاء “لالة عيشة” تتم عملية تقديم القربان ثم ذبحه أمام المكان (المسكون) من لدن “الشريفة لالة عيشة” كما يقال..
ويعلو صوت المجاذيب في الحضرة: “ها هي جاءت للا عيشة”، ومنهم من يبلغ به التلبس بالشياطين حتى يشرب المياه الساخنة إلى درجة الغليان، وقد يجرحون أنفسهم بآلات حادة لتبيان قدراتهم الخارقة..، في حين يتكفل بعض الشباب بتقديم الذبائح/القرابين إلى المسلخة لتباع رخيصة، وتتم عملية معاودة البيع لأناس يقفون مصطفين في طوابير غير منتظمة، يشترون هذه اللحوم ويضعونها في أكياس بلاستيكية، ويدخرونها في ثلاجاتهم، ومنهم من يعيد تسويقها في غفلة من المصالح الصحية، دون السؤال عن حدود الحلال والحرام في هذه الذبائح إذ أهلت لغير الله وذبحت على النصب، فيحرم أكلها، قال الله عز وجل: “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ” المائدة.
أساطير وخرافات نسجت عن “لالة عيشة” في الثراث الشعبي .
لا أحد في المغرب يعرف حقيقة المدعوة “لالة عيشة مولة المرجة”، وهناك عدة أقوال متضاربة حولها، فمنهم من يعتبرها امرأة إنسية، وهذا الفريق يذهب إلى أن “لالة عيشة” كانت نائمة في بيتها ذات ليلة قبل أن تفاجأ بأحدهم يقتحم عليها خلوتها فيغتصبها، فبدأت في الصراخ، وتحولت بقدرة خارقة إلى رجل بلحية وأعضاء تناسلية ذكورية.
والبعض الآخر يتمثلها على أنها جنية، من أصل سوداني..
وفريق آخر يقول: أن الفقيه الصالح سيدي علي بن حمدوش طلب من أحد أتباعه أن يسافر إلى السودان ويحضر له امرأة سمراء اللون تعيش حالة المجاذيب، فوجد الرجل امرأة بنفس المواصفات تردد: “الله دايم” عدة مرات وكان اسمها عيشة..
ويقال: إنها بعد وفاة الشيخ سيدي علي بن حمدوش اختفت في نهر قريب..
وتقول بعض الروايات المغربية المتداولة على لسان العامة أن “عيشة مولاة المرجة” من أكثر شخصيات الجان شعبية لدى المغاربة، إنها (سيدة المستنقعات) ولها من الألقاب “لالة عيشة” أو”عيشة السودانية” أو “عيشة الكناوية”.
بينما يرى الأنثربولوجي الفنلندي (وستر مارك) الذي درس أسطورتها بعمق أن الأمر يتعلق باستمرار لمعتقدات تعبدية قديمة، ويربط بين هذه الجنية المهابة الجانب (عشتار) آلهة الحب القديمة التي كانت مقدسة لدى شعوب البحر الأبيض المتوسط من القرطاجيين والفينيقيين والكنعانيين، حيث كانوا يقيمون على شرفها طقوسا “للدعارة المقدسة”، وربما أيضا تكون “عيشة قنديشة” هي ملكة السماء عند الساميين القدامى الذين اعتقدوا أنها تسكن العيون والأنهار والبحار والمناطق الرطبة بشكل عام.
فنسجت حولها الروايات الشعبية الكثير من القصص، وتحول مكان اختفائها إلى مزار يحج إليه الكثير من الناس سنويا للتبرك حسب زعمهم.
ما موقف العلماء المغاربة مما يمارس في فضاء لالة عيشة مولات المرجة؟
المصيبة العظمى التي تربك الرأي العام المغربي وتدخله في دوامة من التيه والحيرة هو ذلك الصمت الصارخ للمؤسسة الدينية والمتمثلة في المجلس العلمي الأعلى الذي يفرض عليه الواجب أن يتدخل في مثل هذه الأمور ويقول رأيه فيما يمارس في فضاء “لالة عيشة” من طقوس شركية وسلوكيات لا أخلاقية شاذة.
ومن أخطر تجلياتها الذبح لغير الله القائل سبحانه: ” فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ” سورة الكوثر، أي انحر لله وعلى اسم الله، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لعن الله من ذبح لغير الله” رواه الإمام مسلم في صحيحه رقم 1978.
وقد يجتمع في تلك الذبائح التي تقدم قربانا “للالة عيشة” محرمان وهما: الذبح لغير الله، والذبح على غير اسم الله، وكلاهما مانع للأكل منها.
هذا دون أن نتكلم عن حرمة إتيان الكهنة والعرافين، فكيف باحتضانهم والترخيص الصامت لممارسة أنشطتهم القذرة، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم نهى عن سؤالهم وتصديقهم، فقال صلى الله عليه وسلم: “من أتى عرافا فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين ليلة” أخرجه مسلم في صحيحه، وقال صلى الله عليه وسلم: “من أتى عرافا أو كاهنا فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم”.
ختاما نأمل أن تخرج هذه المؤسسة عن صمتها، وتختار طريق إنكار هذه المخالفات والطوام العقدية التي تهدد الأمن الديني والروحي للمغاربة المسلمين، وتشترك مع وزارة الداخلية في منعها ومعاقبة مقترفيها، فنقرأ و نسمع بيانات استنكارية من المجالس العلمية المحلية لمثل هذه الممارسات الخرافية والشركية التي أصبح يعيشها العديد من المغاربة وأصبحت في المغرب كأنها شيء مشروع.
وصل اللهم على محمد وآله وصحبه وسلم.
يتبع في الحلقة القادمة