هذا السؤال ليس فيه مبالغة، أو شطط في التفكير، أو طغيان لنظرية المؤامرة، بل فرضه الواقع، وتراكمُ الإخفاقات والخيانات وأيدت الحقائقُ والمجريات مضمونَه.
لكن يبقى الجواب في ثنايا أوراق القضية، ولن تغير فيه الأحاسيس والمعتقدات شيئا، إلا إذا انضاف إليها التخطيط والإرادة والإخلاص وامتلك العرب والمسلمون القوة المادية والعلمية والتكنولوجية، عندئذ نغير العنوان ليصبح: قريبا سيتخلص المسلمون من ورم تل أبيب.
لكن ذرونا نكن واقعيين، وإن كانت الواقعية في هذا الزمان في أغلب تجلياتها تعني -للأسف- الانهزام والانبطاح ومزيدا من التنازلات المذلة.
ومع ذلك هناك فرق بين: أن نكون واقعيين حتى نقاوم، وبين أن نكون واقعيين فنضع أيدينا في يد العدو بصورة تمكنه من علاقات مميزة قوية مع نظمنا وحكوماتنا وشعوبنا، علاقات ستمكنه قطعا من المزيد من أراضينا وخيراتنا؛ وتعود علينا بالاضمحلال حتى يصبح العربي والمسلم كاليهودي البولندي أو كيهودي الفلاشا الحبشيين.
فلنكن واقعيين وليس انهزاميين حتى يمكننا فهم سلوك حكومات الخليج العربي والتي أصبحت تهرول اليوم لتقبل يد “النتن ياهو” في ذهول تام من طرف الشعوب المكلومة.
لنبدأ هذه النظرة الواقعية منطلقين من التاريخ.
ففي سنة 1878م تم تأسيس أول مستوطنة زراعية صهيونية.
ثم بعد سنوات قليلة بدأت الموجة الأولى من المهاجرين الصهاينة التي شملت 25,000 يهودي تدخل فلسطين من أوروبا الشرقية.
في سنة 1882م البارون “ادموند دي روتشيلد” في باريس يبدأ الدعم المالي للاستيطان اليهودي في فلسطين؛ هذا البارون هو من سيستصدر وعد بلفور لاحقا.
في سنة 1896م نشر الصحفي والكاتب النمساوي/الهنغاري اليهودي “ثيودور هيرتزل” كتابا بعنوان: “الدولة اليهودية” يدعو فيه لإنشاء دولة يهودية إما في فلسطين أو في أي مكان آخر.
وفي 11 شتنبر 1891 قام البارون الألماني “موريس دي هيرش” بتأسيس جمعية الاستعمار اليهودية في لندن، وكان الهدف منها هو تسهيل الهجرة الجماعية لليهود من روسيا وغيرها من بلدان أوروبا الشرقية، وتقديم المساعدات قصد توطينهم في المستعمرات الزراعية على الأراضي التي اشترتها الجمعية.
في سنة 1897م سيتم انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول في بازل – سويسرا حيث دعا لإنشاء “وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين”، وتأسيس المنظمة الصهيونية العالمية للعمل من أجل تحقيق هذا الهدف؛ ولم يتخلف اليهود الصهاينة ولو مرة واحدة عن عقد المؤتمر السنوي، لنراهم فِي سنة 1901م يعقدون المؤتمر الصهيوني الخامس في بازل حيث تقرر تأسيس الصندوق القومي اليهودي (Jewish National Fund)، وهدفه الرئيس شراء الأراضي في فلسطين لتصبح وقفًا لكل “الشعب اليهودي”، مع اتخاذ قرار بتوظيف يهود فقط في هذه الاستثمارات الصهيونية.
ومنذ ذلك الحين توالت الهجرات المنظمة للصهاينة على مرأى ومسمع من العالم، ورغم مقاومة واحتجاج المسلمين وأهل فلسطين تدفقت أمواج المهاجرين الصهاينة لتستوطن فلسطين، حيث اشتملت إحداها على حوالي 40,000 يهودي لتزيد نسبة السكان اليهود في فلسطين إلى حوالي 6٪، وتلتها الموجة الثالثة من المهاجرين الصهاينة التي شملت أكثر من 35,000 يهودي، فقفزت نسبة السكان اليهود في فلسطين إلى 12٪ من المجموع الكلي.
في 30 يناير 1916م توالت المراسلات بين الشريف حسين في مكة (قائد الثورة العربية ضد العثمانيين) والسير هنري مكماهون (المندوب السامي البريطاني في مصر) لتنتهي بالاتفاق باستقلال ووحدة المقاطعات العربية التي تخضع للحكم العثماني، الذي بدأ يتهاوى بسرعة خاطفة.
وفي 16 مايو 1916 تم إبرام معاهدة سايكس-بيكو سرًا بين بريطانيا وفرنسا وروسيا لتقسيم المقاطعات العربية التي تخضع للحكم العثماني، والتي سيكشفها البلاشفة في ديسمبر 1917م بعد استيلائهم على الحكم في روسيا.
وفِي يونيو 1917م الشريف حسين يعلن استقلال العرب عن العثمانيين، واندلاع الثورة العربية ضد إسطنبول.
في نونبر 1917 صدور وعد وزير الخارجية البريطاني بلفور معلنا تعهدات بريطانية بإنشاء “الوطن القومي اليهودي في فلسطين”.
دعونا نقف هنا وإلا فإن تسلسل الأحداث التاريخية التي تظهر تغلغل اليهود في جسم الأمة كثيرة وتشير إلى خيانات متتالية من طرف الزعامات العربية، والتي بعد قرن 2018 نرى هذه الزعامات تسارع إلى التطبيع الكامل مع الصهاينة.
ولنترك هذا الواقع، لنرجع زمنيا من حيث بدأنا وندخل إلى إسطنبول لنرى يهود الدونمة يتحركون، يجتمعون، يخترقون الجيش العثماني ويرشون الباشوات، يضغطون من خلال الإنجليز والروس والفرنسيين، يتآمرون على السلطان، يحاولون أكثر من مرة اغتياله.
السلطان يقاوم بوعي لكن خناق الديون العامة وترهل البنية الحاكمة وانتشار فكر الثورة الفرنسية بين صفوف النخب، واختراق اليهود للحكم عبر حزب الاتحاد والترقي تضعفه يوما بعد يوم، عجزوا عن اغتياله، لكنهم نجحوا في عزله، لنرى الوفد الرباعي يدخل على خليفة المسلمين وسلطان الخلافة ليقرأ عليه قرار العزل، الوفد كان برئاسة اليهودي الصهيوني “قره صو إمانويل” صديق هرتزل زعيم الصهاينة، مرفوقا بثلاثة أشخاص هم: “عارف حكمت باشا” و”آرام الأرمني” و”أسعد طوطاني”.
ولنستمع للسلطان عبد الحميد وهو يشرح شيئا من هذا لشيخه الشاذلي في الرسالة التي نشرها مترجمة الأستاذ البحاثة سعيد الأفغاني:
“إن هؤلاء الاتحاديين قد أصروا وأصروا علي بأن أصادق على تأسيس وطن قومي لليهود في الأرض المقدسة (فلسطين)، ورغم إصرارهم فلم أقبل بصورة قطعية هذا التكليف، وأخيرا وعدوا بتقديم (150) مائة وخمسين مليون ليرة إنكليزية ذهبا، فرفضت بصورة قطعية…”.
لنترك الآن السلطان رحمه الله في منفاه في قصر في ملكية يهودي في إقليم سالونيك ذي الأغلبية اليهودية.
ولنقفز عبر الزمان والمكان لنحط في روسيا التي أقضت مضجع السلطان والخلافة، لنرى اليهود مجتمعين في الاتحاد العام للعمال اليهود في ليتوانيا وبلواندا وروسيا أو ما كان يعرف بحزب “بوند” «Bund»، ينظمون اليهود ليشكلوا القوة الضاربة المؤثرة في عالم يموج بالمتغيرات، وينظمون كذلك أمواج الهجرات اليهودية إلى فلسطين ليشكلوا الشعب أحد عناصر الدولة المنشودة.
نراهم في الشرق الأوربي يضغطون بكل قواهم للتحكم والتأثير في روسيا القيصرية التي تغلي بالأحداث الجسام من خلال حزب “بوند”، الذي كان يعتبر أكبر تجمع يهودي قوي، يتألف من اليهود حصرا، تأسس سنة 1897، وكان يضم 250 منظمة و35 ألف عضو.
كانت زعامات هذا الحزب تنظم الإضرابات كما تنظم التفجيرات والاغتيالات للزعماء والمعارضين ورجال السلطة المعادين لليهود.
توالت الأحداث واشتد ضعف روسيا القيصرية، مما أعطى الفرصة لمزيد من التغلغل لليهود في مراكز القرار، وبعد ثورة فبراير البلشفية 1917، دعمت زعامات حزب “بوند” القيادة المؤقتة للبلاد، ليصبح زعماء المنظمات اليهودية الإرهابيون والتخريبيون بعد الثورة العامة قادةَ أجهزة الاستخبارات في دولة الاتحاد السوفييتي، ويتغلغلون في حزب العمال الاشتراكي البلشفي الروسي بعد الثورة.
من هناك نراهم يرسلون بعض زعامات اليهود الإرهابية إلى فلسطين، لتشكيل الجماعات الإرهابية والمنظمات التخريبية والمليشيات الصهيونية المسلحة في فلسطين من قبيل “البلماخ والإرجون والهاجانا والشتيرن” وهي التي ستشكل الجيش الصهيوني في 1948، بعد القرار الصادر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في 29 نوفمبر 1947 والقاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين يهودية وعربية (فلسطينية) وتدويل منطقة القدس، وكان قرار التقسيم ينص على أن تكون 56% من أراضي فلسطين لليهود، و43% للعرب، و1% لمنطقة القدس التي تقرر جعلها منطقة دولية توضع كمنطقة تحت الانتداب بإدارة الأمم المتحدة.
تعالوا بِنَا بعد أن رأينا كيف يشتغل اليهود بعزيمة وتخطيط واختراق، وكيف يُعدون العدة ويخترقون، الأنظمة ويستعملون كل الوسائل سواء في ذلك الإرهابية أم السياسية أم الثقافي والفنية والمالية، من أجل انتزاع وطن لهم في قلب الأمة، تعالوا بِنَا ننتقل الآن إلى الأحداث التي عشناها وعاصرناها، لنرى استمرار اليهود في التحكم في الأمم المتحدة وفِي القرار البريطاني والأمريكي، بل استطاعوا إلجام العقل الغربي عن التفكير فاستصدروا قوانين معاداة السامية، فأصبح السياسيون والمؤرخون والمثقفون والصحفيون، مهما بلغوا من النزاهة والحيادية، لا يجرؤون على انتقاد التصرفات المشينة لليهود ويتجنبون نقد التغلغل الصهيوني في نظمهم حتى لا يحاكموا بتلك القوانين ويحاصروا أكاديميا وعلميا.
الصهاينة وصلوا من القوة العلمية والاقتصادية والسياسية ما جعلوا به أقوى النظم في العالم تَعتبر دولة الكيان الصهيوني امتدادها الاستراتيجي، ووجودَها جزءا من عقيدتها.
فهنري كيسنجر مثلا كان خلال 50 سنة كوَجْهَي القطعة المعدنية، هو أكاديمي صهيوني ومبعوث للسلام، وهو وزير للخارجية الأمريكية ومهندس لعمليات السلام بين العرب والصهاينة، وهو الصهيوني المنافح عن الكيان الصهيوني وأحد أعمدة الإدارات الأمريكية المتعاقبة على الحكم في أقوى دولة في العالم، فكيف يراهن العرب على الأمريكان والأمم المتحدة، والصهاينة فعليا يتحكمون في القرار الأممي وفي المنظمة الدولية المؤطرة دوليا وقانونيا للقضية الفلسطينية؟؟
ولا غرابة إذًا أن نرى أمريكا تمارس حق الفيتو ضد كل قرار في صالح قضية القدس وفلسطين، ولا غرابة كذلك إذا رأيناها تنقل سفارتها إلى القدس.
وما عسى دول الخليج -في ظل هذا الواقع- أن تقدم وقد استهلكت عمرها وثروات أمتها في بناء حضارة إسمنتية دخلت كل تكلفتها إلى جيوب الشركات التي يملكها الصهاينة والأمريكان والأوروبيين.
فتفريطها في بناء دولها عسكريا وتكنولوجيا وسياسيا لم يترك لها اليوم سوى أن تسارع إلى التطبيع، لعلم نظمها بأن النظام الدولي على وشك الانهيار، والدول الكبرى كالعراق وسوريا أصبحت في حكم العدو لهيمنة النظام الصفوي الشريك الفعلي للصهاينة والأمريكان على نظاميها ومقدراتهما.
أما مجلس التعاون فصار أعضاؤه أعداء، يتربص بعضهم ببعض، وأصبحت دولة كالإمارات بثروتها ضد المقاومة في غزة، وتطيح بكل من لا يريد الركوع للكيان الصهيوني، وتشارك في انقلابات تركيا ومصر واليمن.
ثم هل يمكن الحديث عن دولة للإمارات وهي تدار من خلال العقول الإنجليزية والأمريكية سياسيا، وثروتها اندمجت في الرأسمال الصهيوأمريكي من خلال الشركات المتعددة الجنسية التي تتحكم في الاقتصاد العالمي؟؟
وكيف يمكنها ألا تطبع مع الصهاينة وقد أصبحت جزء منهم اقتصاديا؟؟
إن الإمارات اليوم ومعها السعودية ومصر يشكلون المبضع الذي يمزق جسم الأمة ويعيد تركيبه وفق ما تقتضيه خريطة الشرق الأوسط الكبير الذي وضعه ساسة المعسكر الصهيوأمريكي، والذي اقتضى بالموازاة أن يهيئ المجال الجغرافي والبشري والسياسي حتى يتم التنزيل بالسرعة المطلوبة وبالطريقة التي تراعي تقليل حجم التكلفة.
ومن لوازم تهيئة المجال لإرساء خريطة الشرق الأوسط الكبير رأينا سقوط بغداد وتدمير حاضرها المتمثل في الثروة والجيش، وتدمير التاريخ أيضا والمتمثل في دك كل ما يمت بصلة للخلافة في بغداد، نفس الأمر في دار الخلافة في دمشق كل ما يتعلق بالحضارة الإسلامية في سوريا دمر وصار خرابا.
كل ذلك لكي تكون تل أبيب عاصمة الشرق الأوسط الكبير.
أما على مستوى البشر والزعامات فيتم اغتيال كل الزعامات في سوريا واليمن ومصر وتسجن كل القيادات التي يمكن أن تمانع أو تعترض على صفقة القرن، التي تشكل الجزء الأول من عملية إرساء الشرق الأوسط الكبير، بل حتى القاعدة العريضة للنخب العالمة في شتى الميادين، والتي يمكن أن تشكل نواة أي نهضة في المستقبل تم تهجيرها من خلال عمليات الإرهاب والتدمير، لتصبح لاجئة موظفة في مؤسسات أوربا وأمريكا تسد النقص والخلل الحاصل فيها وتمنع نظمها من التقهقر.
فعندما تحارب الدول الإسلامية مجتمعة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وتشترك في الحرب العالمية على الإرهاب، وتغير مقرراتها التعليمية وتعيد قراءة عقيدتها وشريعتها، وهي تعلم أن ذلك يعني قتل أبنائها وعقول شعوبها الحية، فهي تهيئ شاءت أم أبت المجال والبيئة العربية لإرساء خريطة “إسرائيل” الكبرى التي لا زالت ترفع في الكنيست الإسرائيلي.
لذا فإننا عندما نتساءل: متى تحكم دولة الاحتلال الصهيوني كل عواصم العرب؟؟ فإننا نقصد بذلك مواجهة الحقيقة لا شل العقول والاستسلام للقهر باعتباره القدر المحتوم.
فلا عجب إذن إذا رأينا بعد كل الذي ذكرناه، هذا الاهتمام الزائد باللغة العربية من طرف كوريا والصين وفرنسا وأمريكا، بل من تلك الدول من جعلت لغتنا العربية إجبارية للطلبة في السلك الثانوي، إنهم يا سادة يجهزون الأطر والقيادات من أبنائهم الذين سيشتغلون في إدارات ومؤسسات الشرق الأوسط الكبير الذي قال عنه ابن سلمان: “الشرق الأوسط سيكون أوروبا الجديدة خلال 5 سنوات قادمة”.
إننا عندما نبرز قوة اليهود الصهاينة لا نفعل ذلك لنحاصر الفكر في زاوية الواقعية التي تحيل إلى التعامل اللاواعي مع العدو المتربص، ولكن من أجل الخروج من سطوة الشعارات الزائفة والرهانات الفاشلة، والمزايدات العمياء المتعالية، فيعرف المسلمون قدْرهم ويعيد المخلصون منهم الحساب، وكذلك لنلمس حجم القوة الحقيقية الداعمة للقضية الفلسطينية والقدس، فالركون للأحاسيس والغيرة الدينية والحمية العقدية، يشكل قوة لكن إنزالها كنتائج على أرض الواقع يحتاج إلى قوة موضوعية متنوعة المجالات وواسعة النطاقات.
وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم.
إبراهيم الطالب