يومياتُ مُثقّفٍ مقهور (ج2) ربيع السملالي

قصّتي مع النّجار
كان ذلك قبل شهر رمضان بيومين..
كانت الحرارة مفرطة، ومحفظتي الجلدية ممتلِئة بالمال.. فقد اغتنيتُ بعد فقر في ذلك الشّهر فقط.. حين قرّرتُ أن أحضرَ إلى غرفة مكتبتي نجّارًا ليصنع لي رفُوفًا تليقُ بكتبي الكثيرة المتراكمة فوق رفوف حديدية مُهتَرِئَةٍ لا قيمة لها.. شوّهتْ جمالَها، وكسرتْ الكثيرَ من مجلّداتها.. وعاشت بيننا أكثر من عشر سنوات..
دلّتني أختي الكبرى على نجّار متمرّس عَبوس في مقتبل العمر، مبتلى بالتّدخين، له جسد منهك من أثر الصّنعة، عيناه راقدتان على الدّوام وسراويله هابط وقميصه ممزّق، يعتقده النّاظر إليه لأوّل وهلة أنّه أحمق أو متشرّد من مُتشرّدي محطّة أولاد زيّان..
لم أرتح لهيئته وشكله ونظراته التّعيسة.. لكن ما يهّمني هو عمله وإتقانه ولتذهب المظاهر إلى الجحيم.. ألقى عليّ تحية خرجتْ من بين شفتيه اليابستين كتغريدة عصفور حزين فَقَدَ حبيبته في شجرة من أشجار الأمازون.. فاجأني بقوله: أهلا أخي ربيع…. ألا تذكرني؟..
– لا والله..
– أنا فلان ابن علاّن دَرَسْنا سويّا في مدرسة باب فتوح في المستوى الخامس عند الأستاذ السّي شميشة.. والسّيدة زَرِيدِي..
– يا الله.. حقّا.. عانقته بحرارة… أردفت: رحم الله السّي شميشة كان رجلا عظيما ومعلّما رائعا برغم قساوته وتدخينه المبالغ فيه للسّجائر السّوداء..
تبادلنا حديثا طويلا عن الذّكريات، وعن المشاغبات، عن المعلّمين وعن المعلّمات.. عن شقاوتنا وشقائنا معهم…تذكّرنا حنانًا وسميّةً وفاطمة الزّهراء وأنيسة ابنة المدير…… تذكّرنا جلالا وفؤادًا وحكيمًا سارقَ الأدوات المدرسية..
تذكّرنا عين أسردون وأشجار الزّيتون والواد الأخضر في أيام العطل، ونهاية الأسبوع..
قدّمت له الشّاي السّاخن قبل أن يشرعَ في عمله فبدأ يتحسّس جيبه، باحثا عن علبة سجائره.. قال: ممكن أدخّن؟ قلت له: في هذا المكان لا… فهو مقدّس عندي.. لكن تفضّل إلى الشّرفة إن شئتَ -عفا الله عنّا وعنك-، مسحني بابتسامة ذات معنى، ثمّ ذهب إلى الشّرفة.. دخّن سيجارته بشراهة ثمّ عاد إليّ، بدأت عيناه تتجوّل في الرّفوف الحديدية والمجلّدات المصفوفة والكتب النّائمة هنا وهناك في غير نظام.. والمجلّات والجرائد المبعثرة وما إلى ذلك من وسائل العلم والأدب والتثقيف..
تساءل ببراءة: هل هي تجارة مربحة؟
فهمتُ قصده.. قلتُ: لا يا صاحبي فأنا لا أبيع الكتب.. بل أقرأها….
كلّ هذه الكتب تقرأها؟ مستحييييييييل.. قال مستنكرًا..
قلت مازحا: بل أقرأها وأقرأك أنت أيضا إذا شئتَ..
لم يقتنع بمزاحي اعتقادًا منه أنّني -فعلا- بائعُ كتب..
قلت له: هيا خذ المقاسات.. أريد رفوفا جيّدة الصّنع والخشب.. فإنّني لا أملك من هذه الدّنيا إلاّ هذه الكتب.. وستكون أجرتك كما تشتهي إن شاء الله…
قال مبتسمًا: ممكن تطلعني على بعض الصور فأنا لم أصنع رفوفًا لمكتبة منزلية قطّ..
لم أستغرب قولَه، فمجتمعنا مجتمع جاهل لم يعتد على صناعة الرّفوف والمكتبات في المنازل والدّيار إلا من رحم الله…
أطلعته على صور من النّت.. فأخذ فكرة ثمّ ضربنا موعدًا في اليوم الموالي..
قبل أن ينصرف: همس في أذني: أخي ربيع أنا حديث عهد بزواج.. هل أجد عندك كتابًا يكون لي كرخصة للسياقة فأنا فاشل تجاه زوجي ولست رومانسيا…..!!
ها ها ها ها ها ضحكتُ من أعماقي.. ثمّ قلت له انتظر، فكّرت أن أعطيه الرّوض العاطر في نزهة الخاطر للنّفزاوي، أو رجوع الشّيخ إلى صباه لأحمدَ بنِ سليمان بن كمال باشا، أو حياتنا الجِنسية لفريدريك كهن، أو أسرار الحياة الجنسية للدكتور أمير بقطر، لكن طردتُ الفكرة خوفًا عليه من هذا الغثاء وشفقةً على زوجِه منه.. بحثت عن أدب الزّفاف للعلاّمة ناصر السّنة الألباني بين الرّكام فلم أجده، لمحت تحفة العروس للأستاذ محمود الإستانبولي.. أعطيته له هدية، أعجبه شكله الأنيق وصورة الوردة الجميلة على الغلاف، قال مازحا: ( الليلة ليلتك يا هناء).. يقصد زوجَه.. رفع سراويلَه أخرج سيجارة أخرى من فرط السعادة، ليدّخنها في الطّريق.. ودّعته وعلى وجهي ابتسامة مُشرقة، راضية بهذا الصّديق القديم الظّريف… وحالمة بغدٍ سيكون أفضلَ، ستصير فيه (حبيبتي) المكتبة في أبهى صورها…
ليسوا سواء
عدتُ إلى مدينتي غير المنوّرة من المعرض الدّولي للكتاب بالدّار البيضاء ليلا، وقفتْ بنا الحافلة في محطّة بنزين لِتَتَقَيَّأَ الرّاكبين قبل أن تدخل إلى محطتها الأخيرة.. أنزلتُ بمساعدة (الگريسون) ركاما من الكتب بعضها في (الكراتين) والبعض الآخر في أكياس بلاستيكية، وكانت ثقيلةً كالحَجَر أو هكذا بدا لي بحكم بِنْيتي الضّعيفة اليابسة..
شرعتْ عيناي المتعبتان من أثر السّفر تبحثان عن سيارةِ أجرةٍ لتخطفَني إلى بيتي وأولادي المتلهّفين على رؤيتي منذ يومين.. رأيتُ واحدةً صفراءَ لونُها فاقع في ناحية من نواحي المحطّة، يخرج منها شابّ قصيرُ ذو جسد ممتلئ، له لحية مهملة كلحية الدّاعشي أبي أحمد الرّوداني بائع البيصارة والشّاي، يلبسُ سراويلَ أبيضَ قصيرًا، وقميصًا فضفاضًا متّسخا من أثر السّياقة، يعتمرُ قبّعة سوداءَ كقبّعات الإخوة الأفغان، ويضع نظّارة طبيّة سميكة تُظهر له الأشياء مضبّبة..
ذهبت إليه مسرعًا: السلام عليكم أخي! ردّ عليّ التّحية بعنجهية مُفرطة، قلت: أريد الذّهاب إلى حيّ يعقوب المنصور ومعي تلك (الكراتين) فهل تأخذني وأضاعف لك الأجرة.. قال بعدما مسح بعينيه الضّيقتين أغَرَاضي، متشكّكا بلغة جعلتني أشتهي لطمه على خدّه المُشعر: ما هذه (الكراتين) إيّاك أن تكون فيها مخدّرات أو سجائر، صُدِمت من سؤاله اعتراني للحظات عِيّ وحَصَر غريب أمام هذا الكائن، هذا المخلوق الواقف أمامي كتمثال ضائع في مدينة مهجورة، انطفأت الفرحةُ في أعماقي بهذا السّفر الذي كنت مستمتعًا به، وبهذه الكتب التي أنفقت فيها الغالي والنّفيس.. قلت له بغيظ: اذهب اذهب إلى حال سبيلك..! قال: أليس من حقّي أن أسأل؟ قلت: وهل حين تُوقفك مومس عاهرة وتذهب بها إلى بيت رجل فاسق ليسقيها خمرًا، ويمرّغها في الوحل تسألها عن هذا الذّهاب.. فما لكم كيف تحكمون.. والله لو علمتَ ما في تلك (الكراتين) لبُلتَ على نفسك من الخجل.. احمّر أنفه، انتفخت أوداجه، تلاشت التّقوى، وصار أمامي ككلب عقور يريد الانقضاض عليّ، وصفتُه بالحمار من شدّة غضبي… تشابكنا بالأيدي حاول أن ينطحَني فلم يفلح، أمسكتُ بلحيته، سدّدت له لكمةً لم تكن موفّقة، تدخّل بعض السّابلة وعُمّال المحطّة وسائق أجرة آخر.. ظلّ يسبّ ويشتم ويتوعّد بعدما حالوا بيني وبينه، حكيت لهم ما وقع فاحتقروه، وقالوا: هكذا هم أصحاب اللّحى للأسف الشّديد يعتقدون الجنّة تحت أقدامهم المُتّسخة.. قلت لهم: لا لا ليس كلّهم هكذا.. فهذا رجل جاهل الظّاهر أنّه حديث عهد بإسلام، أو نشأ في بادية بعيدة، أو ربّما يكون داعشيًا متستّرا انبثق من حيّ من هذه الأحياء الشّعبية المُهمّشة التي يكثر فيها القتل والاغتصاب وسبّ الرّب والدّين والدّعارة… فللبِيئة دور كبير في تكوين الإنسان.. فأنا أعرف الكثير من الإخوة الملتحين أخلاقهم عالية جدّا ليسوا كهذا المخلوق التّالف.. طيّبوا خاطري، وأعانوني على حمل أشيائي إلى سيارة أجرة، ونصحوني بالصّبر..
انطلقت السيارة ترقص بين الشوارع والأزقة في الظّلام لا تعرف شيئا عن انزعاجي! وسائقها رجل كهل على وجهه أثر الفقر والبؤس يستمع باهتمام إلى صوت ينبعث من مُسجّلته يقول:
زيديني غرقاً يا سيِّدتي
إن البحرَ يناديني
زيديني موتًا..
علَّ الموت، إذا يقتلني، يحييني..
جِسمُكِ خارطتي.. ما عادت
خارطةُ العالمِ تعنيني..
أنا أقدّمُ عاصمةٍ للحسن
وجُرحي نقشٌ فرعوني
وجعي.. يمتدُّ كبقعةِ زيتٍ
من بيروتَ.. إلى الصِّينِ
وجعي قافلةٌ.. أرسلها
خلفاءُ الشامِ.. إلى الصينِ
في القرنِ السَّابعِ للميلاد !
مرّ على هذه الحادثة زمنٌ ليس بالقصير، وها قد أصبحتْ مجرّد ذكرى أبتسم بعمق كلّما تذكّرتها، بل وجدتني اليوم مدفوعًا لتسجيلها ونقلها إلى القرّاء ليشاركوني قهري ويومياتي ولحظات انفعالي وعنفوان شبابي، وصدقَ الدكتور مصطفى محمود حين قال في كتابه يوميات (“نص اللّيل”؛ ص:20): “الحياة الطبيعية حياة خشِنة فيها تضاريس ومرتفعات ومنخفضات ومُصادمات ومَطبّات وقُبلات وصفعات ولكمات..!”.
يُتبع

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *