لله أرحم بعباده من هذه بولدها

فتح النبي صلى الله عليه وسلم نوافذ مضيئة، وبث نسمات أمل في النفوس، مُبَيِّناً لأصحابه ـ ولنا من بعدهم ـ، مدى سعة رحمة الله تعالى بعباده، حتى لا يتسرب إليهم اليأس أو القنوط مهما بلغت ذنوبهم، وقد استغل النبي صلى الله عليه وسلم بعض المواقف ـ التي وقعت أمامه هو وأصحابه ـ في إظهار وإبراز هذا المعنى.

فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: (قدِمَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم سَبيٌ، فإذا امرأةٌ من السبيِ (ما يؤخذ من الكفار من ذراريهم ونسائهم في الحرب) قد تحلُبُ ثَديَها تَسقي، إذا وجدَتْ صبيًّا في السبيِ أخذَتْه، فألصقَتْه ببَطنِها وأرضعَتْه، فقال لنا النبيُّ صلى الله عليه وسلم: أترَون هذه طارحَةً ولدها في النار؟ قُلنا: لا، وهي تقدِرُ على أن لا تطرَحه، فقال صلى الله عليه وسلم: لَلّهُ أرحَمُ بعباده من هذه بولدها) رواه البخاري.

وعن أنس رضي الله عنه قال: (مرَّ رَسولُ الله صلى الله عليه وسلم في نَفرٍ مِن أصحابه وصَبيٌّ في الطَّريق، فلمَّا رأت أُمُّهُ القوم خَشيَتْ على ولدها أن يُوطَأَ (خشيت أن يدوسه الناس بأقدامهم لصغره) فأقبلَت تسعَى وتقول: ابني ابني، وسَعَت فأخذَتْه، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتُلْقِي ابنها في النَّار، قال: فخَفَّضَهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم (تلطف بهم) وقال: لا، واللهُ لا يُلْقِي حَبيبَه في النَّارِ) رواه أحمد.

وعن عبد الرحمن بن جبير رضي الله عنه قال: (أتى النبيَّ صلى الله عليه وسلم شيخ كبير هرم، سقط حاجباه على عينيه، وهو مدعم على عصا – أي: متكئًا على عصا – حتى قام بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلاً عمل الذنوب كلها، لم يترك داجة ولا حاجة إلا أتاها، لو قُسِّمَت خطيئته على أهل الأرض لأوبقَتْهم – لأهلكَتْهم – أَلَهُ من توبة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: هل أسلمت؟ قال: أشهد أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، قال: تفعل الخيرات، وتترك السيئات، فيجعلهن الله لك كلهن خيرات، قال: وغدراتي وفجراتي يا رسول الله؟ قال: نعم، وغدراتك وفجراتك، فقال: الله أكبر، الله أكبر، ثم ادعم على عصاه، فلم يزل يردِّد: الله أكبر، حتى توارى عن الأنظار) رواه الطبراني وصحَّحه الألباني. قال ابن قتيبة: “أراد أنه لم يدع شيئًا دعته نفسه إليه من المعاصي إلا ركبه، وذلك مصداقاً لقوله تعالى: {إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} (الفرقان:70)”.

استغلال بعض المواقف والأحداث في التوجيه والإصلاح من الوسائل التربوية النبوية، فقد كان صلى الله عليه وسلم يستغل الحدث والموقف فيحوله إلى درس تربوي بسيط الأسلوب، قليل الكلام، عظيم الأثر، ومن ثم فالمعلم والمربي والداعية الحكيم يستثمر بعض المواقف في التربية والتعليم، والتوجيه والإصلاح، كحال وهدي نبينا الكريم صلوات الله وسلامه عليه، والله تعالى يقول: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب:21).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *