من المعلوم أن فقه الأموال مركب إضافي يتكون من المضاف وهو الفقه والمضاف إليه وهو الأموال، وبما أن معرفة المركب تتوقف على معرفة مفرداته، فإن الأمر يقتضي توقف معرفة أجزائه، لذلك فإنني أبدأ أولا بتعريف الفقه في اللغة والاصطلاح، والأموال في اللغة والاصطلاح، ثم تعريف فقه الأموال.
أولا: تعريف الفقه في اللغة والاصطلاح الشرعي:
1- تعريف الفقه في اللغة:
عُرِّف الفقه لغة بعدة معان أهمها:
أولا: الفهم: قال الخليل الفراهيدي: «فقه يفقه فقها إذا فهم»، وقال الجوهري: «الفقه الفهم»، وقال ابن دريد: «فقه عَنِّي، أي فهم عَنِّي»، وقال ابن منظور: «والفقه في الأصل الفهم»، وقال الراغب: «فقه أي فهم وفقهه أي فهمه».
ثانيا: العلم: قال الخليل: «الفقه العلم في الدين… والتفقه تعلم الفقه»، «فَاقَهْتُه: بَاحَثُّه في العلم».
ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: (ليتفقهوا في الدين).
ثالثا: الإدراك: قال ابن فارس: «الفاء والقاف والهاء أصل واحد صحيح يدل على إدراك الشيء والعلم به».
ولئن كان المعنى اللغوي لكلمة فقه في معاجم أهل اللسان العربي قد اختلف فيه فإن أدق تعريف للفقه هو المعنى الأول أي الفهم، لأنه ثبت بعد تتبع واستقراء النصوص الشرعية أن لفظ الفقه ورد بمعنى الفهم، أي أن كثيرا من الشواهد القرآنية والحديثية تعضد هذا المعنى، ومن ذلك قوله تعالى: (قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول)، «أي ما نفهم كثيرا من قولك»، وغيرها من الآيات الواردة بنفس المعنى، وقول النبي صلى الله علبه وسلم في الحديث الصحيح: «من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين»، قال: الحافظ ابن حجر: «يفقهه أي يفهمه»، وهذا المعنى الراجح لا يتعارض مع المعنيين الثاني والثالث بل يؤكدهما، والنتيجة هي تكامل المعاني الثلاثة مما يؤكد أن معنى الفقه: فهم وعلم وإدراك.
2- تعريف الفقه في الاصطلاح الشرعي:
عرف الفقه في الاصطلاح بعدة تعريفات أهمها:
عرفه الإمام أبو حنيفة أنه: «معرفة النفس ما لها وما عليها».
وهذا تعريف عام يشمل أحكام الشريعة كالعلم بالعقائد، والعلم بالوجدانيات أي الأخلاق والتصوف، والعبادات كالصلاة والصوم والحج، والمعاملات بجميع فروعها، وكل هذا يسميه الإمام أبو حنيفة “الفقه الأكبر”، ولعل عموم هذا التعريف كان ملائما لعصر أبي حنيفة الذي لم يكن الفقه فيه قد استقل عن غيره من العلوم الشرعية، لذا لم يكن مدلول كلمة “الفقه” يراد بها في صدر الإسلام المعنى الاصطلاحي الذي حدده الفقهاء فيما بعد، وحصـروه في الأحكام الشرعية العملية من العبادات والمعاملات، وإنما العلم بأحكام الدين جملة.
ثم توالت بعد ذلك تعريفات الأصوليين، ومن ذلك:
أن الإمام الجويني عرفه بأنه: «العلم بأحكام التكليف».
وقال الإمام الغزالي: الفقه «عبارة عن العلم بالأحكام الشـرعية الثابتة لأفعال المكلفين خاصة».
وقال الرازي: «الفقه في اصطلاح العلماء عبارة عن العلم بالأحكام الشرعية، المستدل على أعيانها، بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة».
وقال الآمدي: «الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشـرعية الفرعية، بالنظر والاستدلال».
ومن أحسن التعاريف الاصطلاحية للفقه تعريف الشافعية وهو أن: «الفقه هو العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية».
ثانيا: تعريف الأموال في اللغة والاصطلاح.
1- الأموال في اللغة:
الأموال جمع مال قال ابن فارس: «الميم والواو واللام كلمة واحدة هي تمول الرجل اتخذ مالا، ومال يمال كثر ماله». قال الخليل: «رجل مال أي ذو مال».
قال ابن منظور: «المال ما ملكته من جميع الأشياء… قال ابن الأثير: المال في الأصل ما يملك من الذهب والفضة، ثم أطلق على كل ما يقتنى ويملك من الأعيان».
وهكذا فالمعنى اللغوي للمال في معاجم اللغة يدل على أن كل ما يملكه الإنسان من الأعيان، كالذهب والفضة والإبل والبقر والغنم والنبات والعقار، وما شابه ذلك يسمى مالا في اللغة.
2- المال في الاصطلاح:
وأما المال في اصطلاح الفقهاء اختلف في تعريفه بحسب المذاهب الفقهية، والأفهام الاجتهادي للعلماء:
❖ تعريف الحنفية:
قال ابن نجيم: «المال ما يميل إلى الطبع ويمكن ادخاره لوقت الحاجة، والمالية إنما تثبت بمول الناس كافة»، وزاد على هذا التعريف صاحب درر الحكام حيث أوجب أن يكون هذا المال: «منقولا كان أو غير منقول فكل شيء أبيح الانتفاع به أولم يبح، وكل ما هو مملوك بالفعل أولم يكن مملوكا من المباحات ويمكن ادخاره داخل تحت هذا التعريف»، وبذلك فتعريف الحنفية للمال يدخل فيه كل ما أبيح الانتفاع به شرعا، أولم يبح الانتفاع به شرعا كالخمر، فإنه يعتبر مالا عند الحنفية، وكذلك يدخل فيه كل ما هو مملوك بالفعل، أو غير مملوك بالفعل من أنواع المباحات كالطير في الهواء والسمك في البحر، وغير ذلك مما يمكن إحرازه وادخاره يدخل في تعريف المال في هذا الاصطلاح.
وقوله في التعريف «يميل إليه طبع الإنسان» يخرج به ما لا يميل إليه طبع الإنسان كالميتة والدم مثلا، فإن ذلك ليس بمال لكون الإنسان يعافه.
ومعلوم أن المنافع في نفسها ليست بمال على المعروف من مذهب الحنفية.
وعرفه السرخسي بقوله: «والمال اسم لما هو مخلوق لإقامة مصالحنا به ولكن باعتبار صفة التمول والإحراز».
وحاصل القول فإن تعريف الحنفية جعل المستند في تحديد معنى المال طبائع الناس، ومعلوم أن طبائع الناس مختلفة اختلافا كبيرا من شخص إلى آخر، قد يؤدي أحيانا إلى التناقض، وبناء على ذلك لا يصلح ميل طبع الإنسان أساسا للفرق بين المال وغيره.
وتعريفهم للمال فيه قصور لأنه غير جامع لكل أفراد المال، ذلك أن الخضروات وبعض أنواع الثمور مال بلا شك، ولكنها لا تدخر لسرعة جريان الفساد إليها، وبذلك فهذا النوع من المال لا يدخل في عموم هذا التعريف، وأيضا فمن الأموال ما لا يميل إليه الطبع، بل يعافه وينفيه ويبعده، كبعض الأدوية المرة والسموم فإنها أموال، والتعريف بظاهره لا يشملها ولا تدخل في عمومه.
ولعل أدق تعريف للمال عند الحنفية يفي بالغرض المقصود هوما ورد عند صاحب البحر الرائق، حيث قال: «إن المال اسم لغير الآدمي، خلق لمصالح الآدمي وأمكن إحرازه والتصرف فيه على وجه الاختيار»، قــال الشـيـخ أبو زهرة معلقا:
«وهذا التعريف كامل صحيح».
❖ تعريف المالكية:
قال القاضي ابن العربي المعافري في تعريف المال المعتبر شرعا: «هو ما تمتد إليه الأطماع، ويصلح عادة وشرعا للانتفاع به».
قال الإمام الشاطبي: «وأعني بالمال ما يقع عليه الملك ويستبد به المالك عن غيره إذا أخذه من وجهه».
ويتضح من تعريف المالكية للمال أنه يركز على عنصـري التمول وصلاحيته للانتفاع، وإباحة الانتفاع بالمال يخرج به المحرمات كالخمر والخنزير ونحو ذلك فلا تكون مالا بخلاف الحنفية، وإلى ذلك يشير المازري بقوله: «وهذا الذي لا منفعة فيه أصلا لا يصح ملكه إذا كان مما نهى الشرع عن تملكه كالميتة والدم ولحم الخنزير والخمر».
❖ تعريف الشافعية:
عرفه الإمام الشافعي، كما نقلعنه السيوطي في الأشباه والنظائر قال: «لا يقع اسم مال إلا على ما له قيمة يباع بها، وتلزم متلفه وإن قلت، وما لا يطرحه الناس مثل الفلس وما أشبه ذلك».
من خلال التعريف يتضح أن المال يشمل ما له قيمة بين الناس سواء كان من الأعيان أو المنافع، وسواء كان هذا الشيء ماديا أو معنويا، ويخرج بهذا التعريف الأشياء التافهة: «نحو حبة شعير وكف تراب وشربة ماء»، لأن هذه الأشياء لا قيمة لها بين الناس، ولكونها مما يطرحها الناس، وبحسب التعريف يلزم أن يكون مضمونا على المتلف.
فتدخل بذلك المنافع فإنها مضمونة على الغاصب ومن ثم تعتبر مالا، وتعتبر المنافع مالا عند الشافعية، وإلى ذلك يشير الإمام النووي بقوله: «وكانت المنافع كالأموال»، بل جعلوا المال المنتفع به إما أعيانا أو منافع كما حدد ذلك الزركشي بقوله: «المال ما كان منتفعا به أي مستعدا لأن ينتفع به وهو إما أعيان أو منافع»، وخرج بتعريف الشافعية للمال الخمر لأنه لا يعتبر مالا، وغير ذلك من الأعيان التي حرم الانتفاع بها كالميتة والخنزير وما إلى ذلك.
❖ تعريف الحنابلة:
عرفه الحنابلة بقولهم: «المال شرعا ما يباح نفعه مطلقا أي في كل الأحوال».
فالمال حسب تعريف الحنابلة هو الشيء الذي أبيح الانتفاع به شرعا على الإطلاق لا أن تكون إباحته في حالة دون حالة، أو تكون إباحته لأجل الضرورة، وخرج بهذا التعريف «ما لا نفع فيه كالحشرات، وما فيه نفع محرم كالخمر».
وهكذا فتعريف المال عند جمهور الفقهاء هو أوسع مفهوما من تعريف الحنفية، لأنه يشمل الأعيان والمنافع التي أبيح الانتفاع بها شرعا، فأخرج بذلك الأعيان والمنافع التي لم يبح الشرع الانتفاع بها لأنها ليست بمال كالخمر والميتة والخنزير وغير ذلك مما حرم الانتفاع به في الإسلام.
وبناء على ما سبق تقريره في حقيقة المال في الاصطلاح الفقهي فإن المنافع أموال، وأن الأعيان لا تقصد لذاتها، بل لأجل منافعها، لأن الناس لا يدفعون أموالهم مقابل الأعيان إلا لاشتمالها على المنافع، وأن هذه الأعيان والمنافع يجب أن تكون مباحة شرعا لكي تعتبر مالا، ومن ثم فإن ما حرم الانتفاع به شرعا لا يعتبر مالا في حق المسلمين، ولعل أدق تعريف للمال هوما ذكره الحنابلة لاشتماله على قيد المنفعة المشروعة وقيد الإباحة.
ومن التعاريف المعاصرة الجامعة للمفهوم الشرعي للمال أنه: «كل ما فيه منفعة مباحة شرعا لغير حاجة أو ضرورة، وله قيمة مادية بين الناس».
ثالثا: تعريف فقه الأمـوال
بعد تعريف كلمتي “فقه” و”الأموال” يمكن تحديد مدلول المركب الإضافي: “لفقه الأموال” بأنه: مجموع الأحكام الشرعية المنظمة لتعامل الناس في الأموال.