يعتبر المعلّم في المنظومةِ التربوية الإسلامية، الموجهَ والمحرِّك الفعلي للعملية التعليمية، لأنه هوَ العامل على تبسيطِ المعرفة ونقلهَا إلى عقول الناشئة بما يتكيف مع قُدراتهم العقلية والنَّفسية والاجتماعية.
وإنَّ الآثارَ التّي تحدثت عن المعلم وفاعليته في المجتمع وفي مُؤدَّاه الرّسالي كثيرةٌ ومتعددةٌ، منها هذا الحديث الطويل الذي رواهُ أبو داود في سننه، عَنْ كَثِيرِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِى الدَّرْدَاءِ فِي مَسْجِدِ دِمَشْقَ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا الدَّرْدَاءِ، إني جِئْتُكَ مِنْ مَدِينَةِ الرَّسُولِ -صلى الله عليه وسلم- لِحَدِيثٍ بَلَغَنِي، أَنَّكَ تُحَدِّثُهُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- مَا جِئْتُ لِحَاجَةٍ. قَالَ: فإني سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: «مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقًا مِنْ طُرُقِ الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلاَئِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا رِضًا لِطَالِبِ الْعِلْمِ، وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ في جَوْفِ الْمَاءِ، وَإِنَّ فَضْلَ الْعَالِمِ عَلَى الْعَابِدِ، كَفَضْلِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ عَلَى سَائِرِ الْكَوَاكِبِ، وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ، وَإِنَّ الأَنْبِيَاءَ لَمْ يُوَرِّثُوا دِينَارًا وَلاَ دِرْهَمًا، [وإنّما] وَرَّثُوا الْعِلْمَ فَمَنْ أَخَذَهُ أَخَذَ بِحَظٍّ وَافِرٍ» .
وحال الحديث هذا المقولاتِ التي سادت في المجتمعِ؛ بفعل تأثير المعلم على الواقع “كادَ المعلمُ أن يكونَ رسولاً”، ولا يخفى علينا ما للرَّسول من وظيفةِ تبليغ الدِّين، وأداء الأمانة وتقديم النصح، ونشر الصُّلح بين البشر، كل هذه الأدوار لها قاسمٌ مشترك مع المدرس أو المعلم في فصله التعليمي، وخصوصًا الاشتراكَ في خاصية الأمانة ورسالة، وبإمكانه تعديلُ المجتمع وتغيير العقول، من خلال مُتَعَلّمِيه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، لأنهم رجال الغد، وحملة العلم، ومشعل المستقبل.
ولا يتحقَّقُ هذا العمل إلا إذا هيَّأنا المدَّرسَ وإكسابِه القدرةَ على حمل أعباء الواقِع، وإصلاح ما استطاع من الفساد، ودفعِ الممكن من الضرر الذي يتوقَّع حصوله على المجتمع وأبنائِه، بتوفير الوسائل اللازمة لذلك، لذا سيدي القارئ، فأول هذه الوسائل تحديد أدوار العملية التعليمية التعلمية باعتبارها المحرك الفعال لمخرجات المجتمع.
أولا: أدوار المعلم: لا نختلف منهجا وفكرا في أن للمدرس التربوي أدوارا رئيسة في تربية النشء على الدين الإسلامي، وبعث الروح في آمالهم الذاتية، وتلقينهم الرسالة بكل أمانة ومسؤولية، لكي يُخلِقَ فيهم ومنهم جيلا واعيا وقادرا على تحمل المسؤولية بما يتوافق وخصائص الشخصية الإسلامية المتزنة والمتكاملة، ومحاولة بلورة ترسيخ القيم فيهم للتُتَرْجَمَ بعد ذلك في الوسط الاجتماعي الإسلامي، هذه الخصلة التي غابت [للأسف] في أوساط مجتمعنا الإسلامي وانسلاخها بهوية وقيم الغرب، نتيجة تدفق غُبَار العولمةِ الفاسدةِ على أجيالنا ومنازلنا، وسيطرة وسائل الإعلام الغادرة والمتكدرة بأنواع الأوساخ والأسلاك الموحشة الغادرة فقلبت الوضع عَضَّا موحشا.
فالأستاذ الرباني أو المعلم الرِّسَالي، هو الذي يجنّد نفسَه للتصدِّي لجميع هذه العوائق، التي تتَّجِه بأبنائنا نحوَ الهاوية، ويعتبرها وضعياتٍ سياقيةٍ ينبغي إصلاحُها، وإيجاد الحلول الممكنة قضاياها، باستخدام واعتماد ما تمَّ ذكرُه من الوضعيات الموجودة في القرآن الكريم والسنة والنبوية، أو التي حدثت في زمنِ الصَّحابة والتّابعين، أو التي ذكرَها العلماء في كتبهم، ولا يَنبغِي للمدرس -والحال ما ذكرنا- أن يَسْأَم من تصرّفات الجيل الصاعد، بل ينبغي عليه أن يتَهَيَّأ بالعَتَاد اللَّازم علميا ومنهجيا، لإقناع هذا الجيل الضائع وتحويله إلى الجيل الهادف والرَّاشد.
وقديماً اعتبر الفقهاء والأصوليون؛ أن من شروط المجتهدِ، أن يكون محيطاً بالواقع، وعالما بخبايَاهُ وباهتمام الشباب ومتطلباتهم ومتمنِّياتهم، حتى يكونَ قادراَ على تحويل أهدافهم وأحلامهم إلى سلوكٍ عملي هادفٍ، ولا ينبغي للمدرس في الوقت الراهن أن يكونَ منغلقاً على ذاته، منعزلًا عن الناس، بلِ المفروضُ أن يكونَ عالما بما يَرُوجُ في وسائل الإعلام، وبما يدُورُ في شبكاتِ التواصل الاجتماعي، والتَّفاعل مع القضايا السَّاخنةِ التِّي تدور في الساحة، بل قد تكون هذه الأحداث الواقعية المنطلقَ الفعليَّ للدروس، إذا تنبَّه المدرِّس لذلك، أو اعتبارها دُعامات ووَسائلَ مُساعدةٍ على الفهم والإدراك.
ولا ينبغي أن يُتْرَكَ الشباب أمامَ الأحلام الواهية، والنماذج الافتراضية للشخصيات الكارتونية، أو الهيئاتِ الإعلامية الظاهرة، بل الواجب أن يُعَانَ التلميذُ على تكوين شخصيته، وبناء تجربته، ومن خلالها يمكن لَهُ أن يكوِّنَ الملكَةَ، التي قد تُظْهِرُ له المنهج الواضحَ للتطبيق العملي لأهدافهِ النظرية…
يتبع إن شاء الله…