من المفروض فيمن تولى مسؤولية تستلزم الحكم على الناس؛ أن ينصف ويعدل بينهم، وأن يكونوا عنده سواسية، وإن كان لا يتفق مع بعضهم في الفكر أو التوجه.
وهذه المسلمة من مسلمات المجال السياسي الذي يدعي أهله النزاهة والديموقراطية؛ تجلت مناقضتها بشكل سافر في تعامل بعض المسؤولين وكثير من الإعلاميين مع تفسير الدكتور محمد بن عبد الرحمن المغراوي، وتعاملهم مع تصريحات ومطالب الأستاذة فوزية عسولي.
أما تفسير الدكتور المغراوي فقد تم استغلاله بشكل سيء وبشع، وجعل منه قضية تم الإضرار من خلالها بشخصه وبجمعيته القرآنية، بل وبما يزيد على ثلاثين جمعية قرآنية أخرى بزعم أن لها ارتباطا به كما صرح بذلك وزير الداخلية، وقد تمالأ عليه المجلس العلمي الأعلى ووزارة الداخلية واتهموه بالتشغيب على ثوابت الأمة وتهديد الأمن الروحي للمغاربة، وتوالت الردود عليه في الإعلام المغربي بشكل مريب ومبالغ فيه، ولم تملك الصحف العلمانية نفسها من أن تصفه بأبشع الصفات وأقبحها… إلـخ.
وما نقموا منه إلا أن فسر قول الله تعالى: “وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ” النساء الصغرى 4.
… فسَّره بما فسَّره به عامة المفسرين من المالكية وغيرهم، ومن آخرهم: المكي الناصري رحمه الله في تفسيره المسموع الذي يذاع الآن في افتتاح برامج قناة محمد السادس للقرآن الكريم، وهو من مواد موقع الرابطة المحمدية للعلماء.
وأما الأستاذة عسولي التي طالبت بإلغاء حكم قطعي من أحكام القرآن الكريم فلم نسمع في الرد عليها -إلى الآن- سوى كلمة مقتضبة للشيخ التاويل وتوضيحات طيبة للشيخ مصطفى بن حمزة.
ولم نقف على رد عليها في منبر إعلامي سوى في جريدة أو جريدتين، وليس في شيء من ذلك اتهام لها بتشغيب ولا تهديد للأمن الروحي ولا غير ذلك، فضلا عن كونها لم توقف أنشطة جمعيتها، ولا تعرضت لتضييق أو إنذار!
مع أنها تجهر وتردد المطالبة الصريحة بترك العمل بقول الله تعالى: “يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ” النساء 11.
إن هذه المفارقة الفاضحة تجعلنا نطرح تساؤلات ملحة: ما وزن القرآن الكريم في قلوبنا؟ وما مدى صيانتنا له من تأويل الجاهلين وعبث المتطاولين؟ وما هو نوع التأويل الذي نرتضيه لكتاب الله تعالى حين عاقبنا رجلا متخصصا في علم التفسير على تفسير أجمع عليه الأئمة، وفسحنا المجال لامرأة لا علاقة لها بالعلم الشرعي لتقود حركة تأويلية اجتهادية -زعمت-؟!
وهل يحل يا ترى لرئيسة الرابطة الديموقراطية ما يحرم على رئيس جمعية الدعوة إلى القرآن والسنة؟!
.. عسولي ذات المرجعية الغربية، التي جعلت دستورها توصيات مؤتمرات الأمم المتحدة يُمَكّن لها ويفسح، والمغراوي الذي جعل مرجعيته القرآن الكريم والسنة المشرفة يضيق عليه وعلى دعوته!
لا تناقش عسولي في نصوص مرجعيتها والتي منها ما جاء في (تقرير المؤتمر العالمي لعقد الأمم المتحدة للمرأة: المساواة والتنمية والسلم/ كوبنهاجن)، (1400هـ/1980م):
“ينبغي دراسة كل ما تبقى من أحكام تشريعية تمييزية في المجالات الاجتماعية، والاقتصادية، والسياسية، وفي قانون العقوبات، والقانون المدني؛ بغية إبطال جميع القوانين والأنظمة التي تميز ضد المرأة، فيما يتصل بالحقوق المتعلقة بالجنسية، والإرث، وحيازة الأملاك والتحكم فيها..” إلـخ.
ولما استدل الشيخ المغراوي بحديث عائشة ناقشه العالم والجاهل، الصغير والكبير، المرأة والرجل؛ فمن راد للحديث، ومن متأول، ومن مضعف ومشكك في الصحة.. إلـخ.
فإلى الله المشتكى من زمان تقدس فيه نصوص الأمم المتحدة، ويتطاول فيه على نصوص السنة النبوية.
إن حجم الاستغراب ليتضخم في النفس حين نعلم أن بعض المنتسبين للعلم وقعوا هم بدورهم في فخ هذه المفارقة العجيبة في التعامل مع القضيتين؛ فالدكتور العبادي -مثلا- كان له موقف شديد المعارضة من تفسير الدكتور المغراوي، وقد عبَّر عن ذلك في حوار صحافي بعبارات متهجمة لاذعة، كقوله: (ses propos sont loin de la raison).
أما مع الأستاذة عسولي؛ فقد كان وديعا لطيفا حريصا على عدم إظهار معارضتها في تأويلها؛ اسمع إليه وهو يقول جوابا على سؤال: (ما هو تعليقك على المقترح القاضي بضرورة تعديل قانون الإرث؟): “إن موضوع الإرث في كتاب الله له نوافذ وهوامش حقيقية وعجيبة جدا” مجلة الصباح العدد 6.
بل إنه أبى أن يصرح بأن مطلبها خروج عن الشرع كما في السؤال الثاني الموجه إليه على صفحات المجلة المذكورة!
أما عبد الباري الزمزمي فقد كان أسرع في الرد على الدكتور المغراوي من المجلس العلمي، ولا زال يرد إلى حد الساعة، بينما لم نسمع له إلا ردودا مقتضبة لا تتلاءم مع خطورة مطلب عسولي.
والأعجب أنه في ردّه على الدكتور اغترف من قاموس الألفاظ النابية والتعبيرات القاسية، فلما حاور العلماني الليبرالي محمد زيان في برنامج قناة الحوار، أعطى درسا في الأدب والاحترام، حتى أنه قال لمحاوره ما معناه: “أنا متابع لبرامجك معجب بأطروحاتك”!!
ومما يزيد دائرة المفارقة في هذا الموضوع اتساعا؛ استحضارنا بأن ما صدر عن الدكتور المغراوي تفسير لا يترتب عليه عمل، ودلالته الإجمالية تسعها المدونة في مادتها العشرين، فضلا عن كونه تفسيرا مجمعا عليه كما سبق، وما صدر عن عسولي تأويل متعسف مصحوب بالدعوة إلى تغيير القانون المنصوص عليه في مدونة الأسرة!
وهو تأويل ألبس لبوس الاجتهاد، مع أنه لا علاقة له به؛ إذ الاجتهاد لا يكون في مقابل النص، ولا يصدر إلا عن متخصص، وكون الإرث تعصيبا لا يعني انتفاء القطعية عنه؛ فالتعصيب قسيم الفرائض وليس مقابلا للقطعي كما توهمت عسولي.
إن مثل هذه المفارقة والتحيز السافر للتوجهات الاستغرابية على حساب التوجهات الدعوية الشرعية، ظاهرة مرضية تجب المبادرة إلى احتوائها قبل استفحالها، ومعالجتها قبل تحولها إلى فيروس يفتك بجسد الأمة المغربية، وهي ظاهرة ترفضها الإرادة الملكية السامية؛ حيث أكد العاهل الكريم في غير ما مناسبة على ضرورة جعل المشروع التحديثي المغربي في إطار أصالتنا المتجذرة، المبنية على كتاب الله عز وجل وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وشريعتنا الغراء.
وأنه لن يسمح بتحليل الحرام أو تحريم الحلال.
وهذه إرادة حكيمة جليلة لم يفقهها المتحيزون والاستئصاليون الذين يرفضون القرآن وشريعته، ويسعون لتغييبه من المجتمع عن طريق تحجيم مؤسسات تعليمه والتضييق عليها، والتمكين للمؤسسات المتطاولة عليه.
وعلى مسؤولينا أن يحذروا من الوقوع في فخ أولئك العدوانيين، ويتثبتوا قبل إصدار قرارات يفهم منها أن الدولة تحارب القرآن وطلبته بينما تهادن العلمانيين وطروحاتهم.