الدين قد كمل فلا حاجة للناس في الابتداع محمد أبو الفتح

إنّ الله تعالى أرسل رسولَه بالهدى ودينِ الحقّ؛ ليُظهره على الدّين كله ولو كره الكافرون والمشركون؛ أرسله والنّاس في جاهليةٍ وضلالةٍ عمياءَ، صمَّاءَ بَكماءَ، لا يَرْعَوْنَ لله حقا، ولا يحفظون لـه حدودا، ولا يعرفون لـه حلالا ولا حراما؛ يجعلون لله الأنداد، ويَئِدُونَ الأولاد، ويظهرون في الأرض الفساد، “ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ” (النور :40)، فأخرجهم هذا الرسولُ الكريم، عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم -بإذن الله تعالى- من ظُلُمَاتِ الجاهليَّةِ و ظُلمِها، إلى نور الإسلامِ وعدلِه، فأمسك بحُجَزهم(1) عن النيران، وأخذ بأيديهم وسواعِدِهم إلى الجنانِ، جاءهم بالإسلام غضّا طريّا ، نَقِيّا صافيا، لا تشوبُه شائبة، ولا يُعَكِّرُ صَفوه غائلة (الأمر المنكر)، ثم لم يمض إلى ربّه ، حتى أكمل الله به الدّين، وأوضح به السّبيل، فلا يزيغ عن نهجه إلا من رضي بالهَلَكَة، ولا يرغب عن سنّته إلا من سَفِهَ نفسه؛ وقد جاءت النصوص من الكتاب والسنة والآثار السلفية دالة على كمال الدين وعلى إنكار الابتداع فيه.

إكمال الدين أكبر نعم الله تعالى على الأمة
قال الله سبحانه: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً” (المائدة3).
قال الإمام ابن كثير: “هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة؛ حيث أكمل تعالى لهم دينهم فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال تعالى: “وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً”، أي: صدقا في الأخبار، وعدلا في الأوامر والنواهي، فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة؛ ولهذا قال تعالى: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً”، أي: فارْضَوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه، وبعث به أفضل الرسل الكرام، وأنزل به أشرف كتبه”.
فإكمال الدين وإغلاق باب الزيادة فيه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة، وقد فطن لهذا بعض أحبار اليهود على عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال له: “يا أمير المؤمنين آية في كتابكم تقرؤونها لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيدا.
قال: أي آية؟
قال: “الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً”.
قال عمر: قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة” (متفق عليه).
..المبتدع يزعم بلسان حاله أو مقاله أن بدعته من دين الله وإن كانت لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الله قد أكمل لنا الدين، لم يبق إلا احتمال أن يكون الرسول -وحاشاه- قد كتمها ولم يبلغها مع كونها من الدين، وحقيقة هذا اتهام للرسول صلى الله عليه وسلم بخيانة الرسالة.
ومراد عمر رضي الله عنه أنا قد اتخذنا ذلك اليوم عيدا من وجهين، فإنه يوم عرفة ويوم جمعة، وكل واحد منهما عيد لأهل الإسلام (انظر شرح مسلم للنووي).
فعلى المسلمين أن يتذكروا هذه النعمة العظيمة كل جمعة وكل عرفة، وأن يؤدوا شكرها عن طريق العمل بمقتضاها، وهو ترك الابتداع في الدين والرجوع إلى سنة خير المرسلين، فإن كمال الدين يقتضي عدم الزيادة فيه؛ غير أن واقع المسلمين يدل على خلاف ذلك، فإنهم أحدثوا في نفس اليوم الذي نزلت فيه هذه الآية (أقصد يوم الجمعة) من البدع ما لم يحدثوا في غيره، فبدلوا نعمة الله كفرا، واتهموا صاحب الرسالة بالخيانة، كما قال الإمام مالك رحمه الله: “من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: “اليوم أكملت لكم دينكم”، فما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا” (الاعتصام1/62).
وذلك أن المبتدع يزعم بلسان حاله أو مقاله أن بدعته من دين الله وإن كانت لم ترد عن الرسول صلى الله عليه وسلم، فإذا كان الله قد أكمل لنا الدين، لم يبق إلا احتمال أن يكون الرسول -وحاشاه- قد كتمها ولم يبلغها مع كونها من الدين، وحقيقة هذا اتهام للرسول صلى الله عليه وسلم بخيانة الرسالة؛ فما أدَقَّ نظر الإمام مالك، وما أعمق فهمه رحمه الله.

من ابتدع شيئا في الدين فقد نازع الله في حقه
لقد عاب الله تعالى على المشركين الابتداع في الدين فقال سبحانه: “أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ” (الشورى21).
قال ابن جرير:”ابتدعوا من الدين ما لم يُبح لهم ابتداعه”. وقال السعدي: “شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللّه”: من الشرك والبدع… مع أن الدين لا يكون إلا ما شرعه الله ليدين به العباد ويتقربوا إليه، فالأصل الحِجر على كل أحد لأن يشرع شيئا ما جاء عن الله وعن رسوله”.
فالتشريع حق خالص لله تعالى، فمن ابتدع شيئا في الدين فقد نازع الله في حقه، ومن نازع الله في حقه فقد تعرض لسخطه ونقمته.
وقد عاب الله تعالى على النصارى أيضا الابتداع في الدين فقال سبحانه: “وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا” (الحديد 27).
قال الحافظ ابن كثير: “(فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، أي: فما قاموا بما التزموا حق القيام، وهذا ذَمٌّ لهم من وجهين:
أحدهما: الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله.
والثاني: في عدم قيامهم بما التزموا مما زعموا أنه قربة يقربهم إلى الله عز وجل”.
وقال السعدي: (فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا)، أي: “ما قاموا بها ولا أدَّوا حقوقها، فقصروا من وجهين: من جهة ابتداعهم، ومن جهة عدم قيامهم بما فرضوا على أنفسهم”.
ولْنقف وقفة متأمل مع قوله تعالى: “ابْتَدَعُوهَا”، فإن هذه اللفظة تشعرك بكراهيته تعالى لصنيعهم، ويوضح ذلك أكثر قوله تعالى بعدها:”ما كتبناها عليهم”، كما أن هذه العبارة تبين معنى الابتداع. ويستفاد من قوله تعالى: “إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ”، أن قصد المبتدع هو زيادة التقرب إلى الله، فإذا أضفنا إلى ذلك قوله تعالى في الآية السابقة : “شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ”، ظهر لنا معنى البدعة، وأنها كما قال الشاطبي في الاعتصام (1/43):
“طريقة في الدين مخترعة، تضاهي الشرعية يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه”.
قوله: (طريقة في الدين مخترعة): يستفاد من قوله تعالى: “ابْتَدَعُوهَا”.
وقوله:(تضاهي الشرعية): يستفاد من قوله تعالى: “شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ”، فإن هذه الآية تدل على أن المبتدع أراد أن يضاهي الله في تشريعه وأمره، كما أن المُصَور أراد أن يضاهي الله في خلقه وتصويره، فالله يقول عن نفسه: “شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ” الآية (الشورى13)، ويقول عن هؤلاء المبتدعة: “شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ”، فظهر أنهم أرادوا أن ينازعوا الله في تشريعه، وظهر أن البدعة فيها مضاهاة لشرع الله .
وقوله: (يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه): يستفاد من قوله تعالى: “إِلَّا ابْتِغَاء رِضْوَانِ اللَّهِ”.
ويخرج بقوله: “في الدين”، ما اخترعه الناس من أمور الدنيا، فإن هذا لا يدخل فيما نحن فيه، بدليل قوله تعالى: “شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ”، ولا يشفع للمبتدع قصدُ التقرب إلى الله، لأن هذا لا يُخْرِجُ صنيعَه عن كونه بدعة.
وقد جاءت النصوص أيضا من السنة والآثار السلفية ناهية عن الابتداع في الدين سيأتي بعضها في مقال لاحق إن شاء الله.
نسأله تعالى أن يرد المسلمين إلى دينهم ردا جميلا، إنه ولي ذلك والقادر عليه.
———-
(1) حُجَزهم: معقد السراويل والإزار (محيط المحيط).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *