إضاءاتٌ (ج7) ذ. ربيع السملالي

 

 

* بعض الباحثين من أدعياء السلفية بالخليج، لا يتعاملون مع الشخصيات التاريخية بحياد، يذكرون مثلا ابن المقفع أو الجاحظ أو أبا حيّان التوحيدي فيأتون بكلام الذهبي عنهم جَرحًا، ويحجبون ما قال عنهم من مدح وثناء لأن ذلك لا يخدم بحثهم وتوجههم.. وهذا فكر انغلاقي صرف لا ينبغي أن يتمتع به باحث يحترم عقل القارئ.

******

* “إنباه الرّواة على أنباه النّحاة” للِقفْطي في أربعة أجزاء، فيه ترجمة واحدة لامرأة نحوية تُعرف بابنة الكنيزي، خُصّص لها نصفَ صفحة في المجلد الرابع (ص:147)… والباقي كلّه رجال.. قال عنها: هذه امرأة نحوية كانت في الجانب الشرقي ببغداد، وكانت نهايةً في الفضل، ولها أخ غاية في الجهل، وكانت حسنة المعرفة بالنحو واللغة، ولها تصانيف صنّفَتها تُعرف بها. اهـ

وكلّ ميسّر لما خُلِقَ له.

******

* كان أبو العباس محمد بن يزيد المُبرِّد إذا أراد أحد أن يقرأ عليه (كتاب سيبويه) يقول له: هل ركبتَ البحر. تعظيمًا له، واستعظاما لما فيه.

قال ربيع: لذلك قال العلاّمة أبو فِهْر محمود شاكر في مقدّمته النّفيسة على كتاب (أسرار البلاغة ص:27): فمن أرادَ اليومَ أن يردَّ النّاسَ عن كتب المُبرّد ومن بعده ابن عقيل، إلى ابنِ هشام، إلى الأشموني، ويحثّهم على استمداد النّحو من (سيبويه) وحدَه، فقد أغراهم بأن يُلقوا بأنفسهم في بحر لُجيٍّ لا يرى راكبُه شاطئًا يأوي إليه، وما هو إلاّ الغرقُ لا غير.

كتاب (سيبويه) لا يُعلّم طلاّب العلم النّحوَ، إلاّ إذا مهّد له الطّريقَ ابنُ عقيل وابن هشام والأشموني، وإلاّ فقد قَذَفَ نفسه في المهالك.

******

* يوسف زيدان ساقية شحيحة الماء لاطمت بحرًا زاخرًا لا تكدّره الدّلاء!.. يا مسكين أين أنت من صلاح الدين الأيوبي.. فما مثلك ومثله إلا كما قال الأول: (إذا كنت خاملا فتعلّق بعظيم)!… مازلت أذكر صَلَفك وضيق عطنك حين زرت المغرب قبل سنة، ومُنعت من التدخين ككلب أجرب داخل قاعة المحاضرة، فما كان منك إلا أن أقمت الدنيا ولم تقعدها على الأديب ياسين عدنان الذي كان له موقف مشرف تجاه سوء أدبك.. فمن كانت هذه أخلاقه فلا يجوز له أن يرفع عقيرته بالثلب والطعن في صلاح الدين الذي تتشرف نساء الأمة بحمل مثله في بطونهن، وتتقزز إذا ما ذكرن وجهك القبيح الذي يبعث على القيء.

******

* كان بعض الإخوة قد سألني النّصح عن دار نشر يريد الطّبع عندها، فَلَمَّا عددت له مساويها وجشعها وخيانتها واستغلالها للكُتّاب قال: “إنَّا لله وَإنَّا إليه راجعون”.. ولم يسألني عنها إلا بعد أن دفع إليها نفيس أمواله!.. فندم ندامة الكُسَعي.. وكاد يطير عقله ويتوقف قلبه لأنه امرؤ أدركته حُرفة الأدب، والأدباء فقراء على كل حال، وذلك المال لم يخرجه إلا بشق الأنفس غير مبال بأمر زوجه وعياله… لكنه بعد أيام من النصيحة أشاح بوجهه عنّي، وقطع حبل المودة بيني وبينه واعتزل منشوراتي في الفيسبوك بعدما كان بها معجبا، مغرما مسرفًا في مدحها والثناء عليها.. ثم وجدته يصول ويجول والسعادة تكاد تفتك به في صفحات القوم!.. فعلمت أنّ الرجل لم يذق بعد ألم الخيانة والسرقة، وأن ظهور اسمه مزخرفًا على غلاف كتاب لأول مرة أنساه ذلك، أو اعتقد أنّ نصيحتي كانت لعداوة أو حسد! ويشهد الله أنني كنت صادقًا وصاحب تجربة مُرّة مع تلك الدَّار.

*****

* في نهاية الأرب في فنون الأدب ج7 ص13.14: قال إبراهيمُ بنُ محمد الشّيباني: من كمال آلة الكاتب أن يكون بهيَّ الملبسِ، نظيفَ المجلِسِ، ظاهرَ المروءة، عطِرَ الرّائحة، دقيقَ الذّهن، صادقَ الحِسّ، حسَنَ البيان، رقيقَ حواشي اللّسان، حلوَ الإشارة، مليحَ الاستعارة، لطيفَ المسلك، ولا يكون مع ذلك فضفافَ الجُثّة، متفاوت الأجزاء، طويلَ اللّحية، عظيم الهامة، فإنّهم زعمُوا أنّ هذه الصّورة، لا يليقُ بصاحبها الذّكاءُ والفِطنة. قال بعضُ الشعراء:

وشَمول كأنّما اعتصروها…من معاني شمائل الكُتّاب

*****

قلتُ ناصحًا الكُتّاب في كتابي (تأملات كاتب): ولن تكون كاتبًا عظيمًا حتّى يستويَ عندك المدحُ والذّم، ولن يعمّر أدبك طويلا إذا كنت من الذين لا يكتبون إلاّ ما يُرضي سيّد القَبيلة، ولن يكون قلمك شريفًا إلاّ بالابتعاد عن نون النّسوة والتّغرير بقلبها الضّعيف.. 

وحذارِ كما يقول أبو غدّة: أن تتعالى على المُتقدمين والسابقين فيما تكتُب -ناسخًا ماسخًا مُختلِسًا- مؤلفًا، وترى نفسَك أنك أتيتَ بشيء فات الأوائل ولم تَستطِعْه الأواخر، فلا تَنزلْ (نا) و(نحن) من لسانك وقلمِك وذهنك، فتُصاب بمرض نون الجماعة، كما هي حال من ترى من زعانف الفارغين وطَحالب التافهين المُتعالين.. فالكاتب الحق هو مَن يحمل أمانةَ القلم، وأمانةَ الكلمة؛ لأنَّ النَّاس الذين يقرؤون له يُصابون بالإعجاب والتقدير والاحترام، ومن ثَمَّ تَجدهم يحاولون محاكاته وتقليده والاقتداء به؛ فإن استطعتَ أن تكون مفتاح خيرٍ بقلمك، مغلاقَ شرٍّ، فافعل، وإن لم تستطع:

فدعْ عنك الكتابةَ لستَ منها…ولو سوّدتَ وجهك بالمِدادِ

وإيَّاك أن تجعل من قلمك بوقًا سياسيًّا، أو منظِّرًا لبِدعة أو حزبيَّة ضيقة، أو جماعة تَدعو إلى ضلالة، فلا شيء يقيِّد القلمَ يا صاحبي ويجعله ضيِّق الأفق لا يستطيع التَّحليق في سماء الإبداع كالعبوديَّةِ العرجاء من أجل دراهمَ معدودات لا قِيمة لها، بل لا تساوي ثمَن المداد الذي تكتب به إن كنتَ صاحبَ أفكار نيِّرة.

*****

عبد اللطيف بن يوسف البغدادي كان دميمَ الخِلْقَة نحيلَها، قليلَ لحم الوجه قصيرًا، ولمّا رآه زيدُ بنُ أبي الحسن الكِنْدي لقّبه (المُطجَّن) -والألقابُ تنزل من السّماء- فشاعتْ ولم يُعرف بعد ذلك إلاّ بها. وكان يدّعي تصانيفَ كتب ما فيها مُبتكر، وإنّما يقفُ على تصانيف غيره، فإمّا أن يختصر أو يزيد ما لا حاجة إليه، وهي في غاية البرود والرّكاكة. وكان إذا اجتمع بصاحب علم فرّ من الكلام معه في ذلك العلم، وتكلّم في غيره مُغربًا، ولم يكن محقّقا في شيء مما يقوله ويدّعيه.

ولقد اجتمعتُ به واختبرته فرأيته فيما يدّعيه كالأعمى الذي يتحسّس ويدّعي حِدّة النّظر، وما وثقتُ من روحي بذلك حتى سألت جماعة من أهل علوم متفرقة قد كان يدّعيها، فذكروا من أمره بَعْد نظره وكلامه نظيرَ ما علمته.

ومن أسوأ أوصافه قلّة الغيرة -نعوذ بالله من ذلك- وقطن حلب في آخر عمره، وأجري له بها رزق على الطّب، وهو لا يعلمه.

وخطرَ له في شهور سنة ثمان وعشرين وستمائة السفر إلى العراق ليحج، فمرض ببغداد، وأخذ في مداواة نفسه بطبه، فمات -كما شاء الله- في شهور سنة تسع وعشرين وستمائة، وأبيعت كتبه بحلب، فوقعت على شيء منها، وهي في غاية الانحطاط عن رتبة الكمال. ونعوذ بالله من فتنة الدّعوى.

قال ربيع: المعاصرة حجاب، ولسنا من الغباء بحيث نسلّم بما قاله القِفطي هنا عن هذا الرّجل، وقد صدق من قال عنه: وظهر به تحامل القِفْطِي عليه بما ذكره، وهذه عادته في هضم العصريين وحطّ مراتبهم وإيهام أنّه عارف بمنازل العلماء وتمييز طبقاتهم، ولم يكن هناك ولا قريبا. عفا الله عنه.

وحتّى لو سلّمنا بما قال، فهل يجوز أن نذكر النّاس بالعيوب الخِلقية التي خلقهم الله عليها، فهذا لعمري لا يكون إلا من حاسد أو حاقد. وكلام الأقران يُطوى ولا يُروى.

وكذلك تحامله على (ياقوت الحموي) مؤلف الكتاب النّفيس (معجم الأدباء)، لا مُسوّغ له.. وهذه حاله مع أكثر المعاصرين له كما أسلفنا في غير هذه الأكتوبة، فالمعاصرة حجاب، والويل لباحث جهول يأخذ كل معلوماته عن كتاب القِفْطِي دون الرجوع إلى غيره من أهل التراجم، وقد تعجب محقق الكتاب وهو أبو الفضل إبراهيم من صنيع القِفْطِي حين لم يذكر لياقوت أشهر مؤلفاته، كمعجم الأدباء، ومعجم البلدان، مع العلم أن للقفطي ترجمة كبيرة في معجم الأدباء نوه فيها ياقوت بعلمه وأدبه وفضله، وأورد فيها الكثير من شعره ورسائله، وعليها المعول عند المحققين في التعريف به.. وأما معجم البلدان فقد أهداه إليه وذكره في المقدمة بكلام كبير يشي باحترام وتقدير وتبجيل.. ولكن يأبى هذا الوزير جمال الدين القِفْطِي إلا أن يستخفّ به ويذكره بأسوأ الكلام… غفر الله لهما.

https://www.facebook.com/rabia.essamlali

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *