نصُّ الحديث النبوي:
عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ مِحْصَنٍ الْخَطْمِيِّ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: “مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا.([1])”
لقد أسّس الحديث النبوي مفهوما للسعادة الدنيوية والشعور بالطمأنينة في الحياة؛ حيث نستشف من الحديث النبوي، دلالاتٍ ومعانيَ عظيمة، فالحديث فيه دعوة إلى القناعة والرضى بالقليل، وأن الدنيا مجرد حياة عابرة، فالذين يطمحون إلى اكتناز الثروات، ويعتقدون أن الساعة تتحقق بالمال الكثير، والتوسع في البنيان والعمران، وامتلاك الدور والمنازل فهم مجانبون للصواب.
فالإسلام حثّ على تحقيق الأمن الاقتصادي والمادي -دون جشع ولا إفراط- الذي يظل مطمحَ كل مؤمن؛ لتأمين الحياة وحفظ النفس، كما أن الأمن الاجتماعي يعتبر من أولى الأولويات، فلولا السلم والأمان، لما كان هناك اقتصاد ولا تنمية اجتماعية، ولولا أيضا نعمة الصحة والعافية في البدن، لما تحقق الأمن الاقتصادي، فهذا الأخير متوقف على حصول الأمنين معا: الاجتماعي والصحي.
لقد ورد في القرآن الكريم الاقتران كثيرا بين هذه النعم؛ خاصة ما يتعلق بتحقيق الأمنيين الاجتماعي والغذائي، قال تعالى في شأن قريش: “فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَٰذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ” قريش:3-4.
كما ضرب سبحانه وتعالى المثال بقوم أنعم الله عليهم بنعمة الأمن والرزق، فأبطرتهم النعمة فعصوا وتمردوا، فبدل الله نعمتهم بنقمة، وسلبهم الله نعمة الأمن والاطمئنان، وأذاقهم الآم الخوف والجوع والحرمان)[2](.
قال الله تعالى: “وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ” [النحل:112].
لقد أوتي رسول الله صلى الله عليه وسلم جوامعَ الكلم، فأحاديثه الشريفة كلّها حكمة ودقة في الأسلوب وتقديم الأولويات، كما الشأن في هذا الحديث؛ حيث استهل بالأمن في السّرب -المسكن والمحيط- الذي لولا وجوده، لما كان ثروة ولا اقتصاد، وإذا توفرت هذه الثروة، فإنها ستكون مهددة بفعل عدم تواجد الأمن والسلم، ولولا أيضا نعمة الصحة والعافية في البدن، لما استطاع الإنسان البحث عن الرزق وتحقيق الأمن الاقتصادي؛ لأن قوة الجسم منهارة بالسقم والعلل.
إن المتتبع لأحوال الشعوب والدول، وسياستها الإنمائية يدرك بجلاء مدى الاهتمام المتزايد بتحقيق التنمية الاقتصادية، فهي عماد التقدم والنهضة؛ لكن مما يُلحظ الإغفال الكثير للجانب الأمني والصحي، فيتفشّى الظلم والإجرام وينعدم السلم، وتظهر حالات من الأمراض والأوبئة في المجتمعات، فيستعصى استئصالها نتيجة الإهمال المفرط، وعدم العناية بالعنصر البشري، الذي يظل دعامة أي إصلاح أو تغيير.
فما السُّبل الكفيلة بتحقيق الأمن الاجتماعي والاقتصادي والصحي من المنظور إسلامي..؟
وسائل تحقيق الأمن الاجتماعي:
تربية الأبناء على القيم والمبادئ الأخلاقية:
إن التنشئة الصحيحة للطفل منذ الصغر، وغرس فيه القيم النبيلة، كفيل بتكوين وإعداد جيل صالح ومسالم، يؤمن بالتعايش ويمقت العنف والعدوان، ولن يتأتى ذلك إلا بمراعاة الأبناء، على المستوى النفسي والصحي والاجتماعي والتربوي والفكري، وتلبية احتياجاتهم ومواكبتهم في مرحلتي الطفولة والمراهقة على حدّ سواء.
نشرُ قيم التسامح ونبذ العنف بكل أشكاله:
المجتمع بحاجة ماسة إلى زرع قيم التسامح والتضامن والوئام؛ ليعم فيه الأمن والأمان والسلم والاطمئنان، فيأمن الإنسان على نفسه وعرضه وماله، وترسيخ ثقافة التسامح، ويأتي عن طريق التربية السليمة ومواكبة الطفل في المؤسسات التعليمية، كما أن للإعلام حظّا نصيبا في بث قيم التسامح، ونبذ كل السلوكيات المشينة التي نهى عنها ديننا الحنيف.
تمتينُ العلاقة بين الأقارب والجيران:
لقد أكّد الإسلام وحثّ على توطيد العلاقات بين الأقارب والجيران، عن طريق صلة الرحم، وكفّ الأذى، وبذل المعروف، والصّفح الجميل، وكل ذلك كفيل بنبذ الشقاق وتذويب الخلافات، والانصهار في بوتقة الحب والتآزر والتعاون، والمجتمع يكون صالحا بقدر ما تغيب فيه العداوة والبغضاء بين أفراد الأسرة والجيران، فلا صلاح للمجتمع إلا بصلاح أحوال الأسرة، التي هي نواة المجتمع، وصلاح أحوال الجيران، التي تربطهم علاقة المسكن والقرابة.
كفُّ الأذى عن الطريق:
لقد حثّ رسولنا صلى الله عليه وسلم على إعطاء الطريق حقه، من خلال غضّ البصر وكفّ الأذى في القول أو الفعل، ويشمل الأمر إماطة الأذى عن الطريق، فالطريق هو مرفق عام شأنه كشأن المسكن، في درء الأذى عنه واجتناب البذاءة في القول وسوء في الفعل، كل ذلك من شأنه بناء مجتمع يسوده الأمن والرخاء والازدهار.
وسائل تحقيق الأمن الاقتصادي:
السّعي إلى العمل وبذل الجهد في طلب الرزق:
المتتبّع للنصوص القرآنية والأحاديث النبوية، يجدها حافلة بالدعوة إلى الكد والسعي في العمل؛ للبحث عن موارد الرزق، وفي الغالب ما يرد ذلك مقترنا بالعبادة؛ للدلالة على أن العمل عبادة، يثاب المرء على ذلك، قال تعالى: “فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ” الجمعة:10.
وفي العمل وسيلة لجلب المال وتوفير مؤونة العيش؛ ليخرج الإنسان من ضيق السؤال والمسكنة للرّفعة والعزة، فالمؤمن دائما يحرص على أن يكون قويا في جلّ مناحي الحياة، إنْ على المستوى الديني أو الدنيوي.
الاعتدالُ في النّفقات وترشيد الاستهلاك:
إنّ من شأن الاعتدال في النفقات، والترشيد السليم للمال، الحفاظُ على التوازن الاقتصادي، وتفادي الوقوع في الإفلاس، وذلك ما يرشدنا إليه ديننا الحنيف؛ حيث أثنى الله على عباد الرحمان، الذين توسطوا في الإنفاق، قال تعالى: “وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً” (الفرقان: 67).
تفَادي البُخل والجَشع المذْمُومين:
دائما يحرص الإسلام على أن يكون المسلم سالما من بعض الخصال الذّميمة والصفات التي لا تتناسب والمؤمنَ الصادق بربه، ومن ذلك صفة البخل، التي تعني الحرص على تكديس المال وعدم بذله خشية الفقر، فالمتّصف بهذه الصفة يعيش حياة مضطربة متسمة بالتقتير والتضييق في الإنفاق، حتى ولو تعلق الأمر بمن يعولهم، وذلك مذمة؛ لأن إنفاق الإنسان على عياله واجب شرعا، وخير ما ينفقه الإنسان، ففي الإنفاق على العيال والتوسعة عليهم مَحْمَدة شرعية، كما ذمّ الإسلام الجَشع المُفرط والحرص الزائد على المال؛ لأن ذلك يتنافى مع أخلاق المؤمن الذي ينبغي أن يكون حرصه على العمل الصالح وملء أوقاته بالطاعة ونشر الفضيلة، بدل الحرص والشّره على المال، وقد عاتب الله قوما كانوا يدّخرون الأموال ويكتنزونها حبّاً فيها، قال تعالى: “وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا” [الفجر:20].
وسائلُ تحقيق الأمْن الصّحي:
الحرصُ على الوقاية من الأمراض وعدم تعريض النفس للتهلكة:
إنّ اتخاذ منهج الوقاية المبكّرة من الأمراض وعدم تعريض الجسم لبعض الآفات، مسلك قويم وصحيح، دعا إليه الإسلام، لتفادي الوقوع في الأمراض، فهناك طبٌّ وقائي يشمل النظافة ومحاربة تلويث البيئة، وعدم مخالطة المرضى المصابين بالعدْوى تفاديا لانتشار العدوى، كما رخّص الإسلام في بعض العبادات، وجعل أداءها حسب استطاعة الإنسان؛ كي لا يجهد الإنسان نفسه أو يتفاقم مرضه، فشرع الفطر في رمضان للمريض، وشرع التيمم بدل الطهارة، وغيرُ ذلك كثير من الرّخص الشرعية.
التغذية السليمة والمتوازنة:
التغذية السليمة والمعتدلة، وتناول المأكولات الطبيعية، تكسب الجسم قوة ومناعة، وتحميه من بعض الأمراض والتسممات، فتناول الأكل بشره ونهَم يؤدي إلى التّخمة، فيصبح جسم الإنسان معرّضا لبعض الأمراض الفتّاكة التي تنخر الجسم وتضعف هياكله، فالتغذية السليمة كفيلة بالحفاظ على البدن ومساعدته على النمو بشكل سليم.
التّداوي المشروع:
لقد حثّ الرسول صلى الله عليه وسلم على التداوي والتّطبيب الموافق للشرع، فالإنسان مسؤول عن بدنه، سواء تعلق الأمر بوقاية الجسم من الأمراض، أم القيام بالتداوي أثناء المرض، فعَنْ أُسَامَةَ بْنِ شَرِيكٍ قَالَ: “قَالَتْ الْأَعْرَابُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَا نَتَدَاوَى؟ قَالَ: نَعَمْ يَا عِبَادَ اللَّهِ تَدَاوَوْا، فَإِنَّ اللَّهَ لَمْ يَضَعْ دَاءً إِلَّا وَضَعَ لَهُ شِفَاءً،أَوْ دَوَاءً إِلَّا دَاءً وَاحِدًا. فقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا هُوَ؟ قَالَ : الْهَرَمُ”)[3](.
ويستفاد من الحديث النبوي توجيه المسلمين إلى التداوي، كما وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين في بعض أحاديثه الشريفة، إلى استعمال أدوية طبيعية؛ مثل العسل، والحبة السوداء والتداوي عند أمهر الأطباء وأحْذَقهم.
مزاولةُ بعض الرّياضات والأنشطة الترفيهية:
تتجلى عناية الإسلام بالصّحة البدنية، من خلال الدّعوة إلى مزاولة بعض الرياضات؛ كالفُروسية والسباحة وباقي الرياضات المفيدة للبدن؛ لإكساب الجسم نشاطا وحيوية، مما يؤهله للنهوض بالواجبات الدينية والدنيوية، على الوجه الأكمل، فكلّما كان الجسم معافىً وحيويا، إلا وبَعَث في صاحبه الأمل ودفَعه إلى العمل أكثر، دون شعور بالملل أو الكسل والعجز المذموين شرعا.
————————
أخرجه الترمذي في سننه وحسنه: كتاب الزهد: باب في التوكل على الله:4/574[1]
صفوة التفاسير، للصابوني، ج:2 الصفحة:120 ([2] )
أخرجه الإمام الترمذي في سننه، كتاب الطب: باب ما جاء في الدواء، رقم الحديث: 2038 ([3] )