حاجة مجتمعنا إلى العلماء جلال اعويطا

لا يمر شهر إلا وأتلقى سيلا عارما من الاتصالات والرسائل وأتعرض لعدد من المواقف؛ فهذا يتصل من على بوابة علبته الليلية التي ملَّ من ولوجها وضاق من اللهو في جناباتها ليسألني عن كيفية التخلص من الذهاب إليها؛ وأخرى ترسل رسالة تسأل عن حكم التخلص من جنين علق برحمها من علاقة محرمة؛ وآخر يُوقفك ورائحة الخمر تُخالط كلماته وعبراته تسيل وهو يشكو الضياع والغرق، وأخرى تسأل عن حكم حمل أختها من زوجها؛ وبعضهم يرسل وقد دمرت الربا حياته؛ وأم تسأل الدعاء لابن أرهق العائلة بإدمانه؛ وأب يطلب العون وهو يُصارع من أجل إخراج ابنته من دوامة الرذيلة ومستنقعات الخبائث؛ وزوج يحبس عبراته وهو يقص خيانة زوجته؛ وآخر يحكي عن غلو أخيه وتطرفه؛ ووالد يشكو تنصُّر ولده.
ولا تخطأ عيني وأنا أمر بجانب كشك الجرائد والمجلات صورا خليعة؛ ومشاهد مخزية؛ وعناوين لجرائد علمانية مشحونة بالعداء والكراهية للعلماء والصالحين والمتقين.
ولا تنقضي الغرائب والعجائب من مجتمع أفسد بنو علمان مقوماته؛ ودمروا هويته؛ وغيروا شرائعه؛ وشوهوا جمالية ثقافته؛ وعطلوا مظاهر التنمية الحقة؛ وأفسدوا البلاد والعباد..
وتتوالي التساؤلات ويتيه الفكر بحثا عن الحلول المثلى لمشاكل أثقلت كاهل مجتمعنا وأغرقته في ضنك الفساد والانحلال، وكلما طرقت بابا وجدت العلمانيين قد أوصدوه وأحكموا إغلاقه ولم يتركوا المجال لتدخل استعجالي للإصلاح والمدافعة.
فالتعليم حولوه إلى فوضى وقطاع عصي عن الإصلاح: مقررات هزيلة، وتغريب وعلمنة، واختلاط بالأقسام، وعلاقات محرمة، وغياب تربية إيمانية قويمة..
وإن طرقت باب الإعلام وجدته رسائل ملغومة أجمعت على علمنة المجتمع وتضليل الرأي العام عن طريق برامج هدامة وأفلام خليعة ومسلسلات ماجنة.
وإن طرقت باب منابر الجُمع تجدها منابر بلا روح، كبلتها السياسة وأتعبتها الحرب الفكرية، التي جعلت كثيرا من الخطباء يستسلمون للواقع؛ كي يضمنوا رواتبهم ومستحقاتهم.
وإن طرقت باب الأسرة أصابك الذهول من جُرم ما اقترفه الأعداء بها؛ تفكك رهيب، وتآكل خطير لمنظومة الأخلاق والقيم…
فلا زلت كذلك أشخص الداء وأحاول وصف الدواء؛ فلم أجد دواء جامعا لكل هذه المشاكل التي ذكرت والتي لم أذكر كرجوع العلماء إلى منزلتهم الطبيعية التي خصهم الله بها؛ ألا وهي قيادة الأمة من جديد والنزول إلى المجتمع وسياسة الدنيا بالدين؛ والوقوف إلى جانب الضعيف؛ وتقويم المخطئ؛ وتعليم الجاهل؛ وتربية الصغير؛ وجمع لُحمة الأمة؛ والدفاع عن مُقومات هويتها.
إن حاجة مجتمعنا المغربي اليوم إلى العلماء أشد من حاجته إلى الطعام والشراب، وإن تقييد دور (ملح البلاد)؛ وتكميم أفواههم؛ وترهيبهم وتخويفهم؛ لهي من أعظم خطط الأعداء لمنع يقظة الأمة وبعثها من جديد.
فالعلماء هم ورثة الأنبياء ورثوا العلم والعمل، ورثوا الأخلاق والسمت، ورثوا الدعوة والصبر.
إن العلماء متى ما تأخروا تقدم غيرهم ممن ليس أهلاً لسدِّ خلتهم، ولا بدَّ للناس من قادةٍ يرشدونهم ويوجِّهونهم؛ حتى إذا لم يجد الناس عالماً اتخذوا رؤوساً جهالاً فاتبعوهم ووجهوهم، فضلُّوا وأضلُّوا، فتخلفُ العلماء عن الريادة هو سبب الضعف والخنوع.
وقد يُغيب العلماء أنفسهم من حيث يظن العالم أن هذا هو مقتضى الثبات وعدم التأثر بالواقع، بينما هو في حقيقته نوعٌ من الانغلاق والانكفاء على الذات، وهو مذمومٌ بلا شك، فليس المراد بالثبات أن يقعد العالم في بيته معتزلاً عن قضايا الأمة وهمومها، وإنما المراد هو الاضطلاع بدور الريادة والقيادة مع التمسك بأمر الله قدر المستطاع، فإن قدر فقد أدى الذي عليه وإلا عُذر، فإن الثبات على المبدأ هو التحرك به لا الانعزال والانطواء.
إن المنتظر من العالم هو أن يقوم بما يستطيعه، وهو معذورٌ فيما لا يحسنه، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، أما إذا استطاع العالم وقَدِر فإن المرجو منه شمولية الأهداف والمشاريع، والمنتظَر منه إصلاح واقع الأمة بكل مجالات ذلك الواقع واتجاهاته.
لما أيقنت بفعالية الدواء راسلت العديد من العلماء فاجتمعوا على صواب ما تبين لي؛ إلا أن سؤالهم ظل واحداً وهو:
وكيف نقود وأين المعين؟
فرجعت ثانية باحثا مستشيرا؛ ووقفت على سير كبار المصلحين وعظماء الصالحين الذين قادوا التغيير في أممهم ودولهم ونجحوا في صناعة التاريخ، ورسموا للبشرية طريقا مُعبدة توصلهم إلى بر الأمان في كل مكان وزمان، فلم أجد واحدا منهم إلا ومعه ثلة من العاملين، لأن الجهد الفردي مهما كانت قدرات العالم ومواهبه لا يمكن أن يوازي الجهد الجماعي والعمل المؤسسي.
وأنا أتأمل في سير العظماء والمجددين وصُناع المجد على مرِّ العصور شدني طابع تفاعلهم مع مجتمعاتهم وتفعيلهم لقواه المختلفة.
قال العلامة الشيخ محمد الخضر حسين:
(نود من صميم قلوبنا أن تكون نهضتنا المدنية راسخة البناء، رائعة الطلاء، محمودة العاقبة. ولا يرسخ بناؤها، ويروع طلاؤها، وتحمد عاقبتها، إلا أن تكون موصولة بنظم الدين، مصبوغة بآدابه، والوسيلة إلى أن يجري فيها روح من الدين يجعلها رشيدة في وجهتها، بالغة غايتها: أن يزداد الذين درسوا علوم الشريعة عناية بالقيام على ما استحفظوا من هداية، فلا يذروا شيئًا يشعرون بأنه موكول إلى أمانتهم إلا أحسنوا أداءه.
..وإذا قصَّ علينا التاريخ أن فريقًا من أهل العلم قضوا حياتهم في بحث المسائل العلمية البحتة، فقد قصَّ علينا أن أمة من عظمائهم كانوا ينظرون في الشؤون العامة، ويمثلون السيرة التي تكسو صاحبها جلالة، وترفع له بين الخلائق ذكرًا.
كان أهل العلم يوجهون هممهم إلى الوسائل التي تقي الأمة ممن يبغونها الأذى، فهذا أبو بكر بن العربي قاضي أشبيلية رأى ناحية من سور أشبيلية محتاجة إلى إصلاح، ولم يكن في الخزانة مال موفر يقوم بسدادها، ففرض على الناس جلود ضحاياهم، وكان ذلك في عيد الأضحى، فأحضروها، وصرفت أثمانها في إصلاح تلك الناحية المتهدمة.
وكان محمد بن عبد الله بن يحيى الليثي قاضي قرطبة كثيرًا ما كان يخرج إلى الثغور، ويتصرف في إصلاح ما وَهِي منها، حتى مات في بعض الحصون المجاورة لطليطلة.
وظهور العلماء في أمثال هذه المواقف يغرس لهم في نفوس الأمة ودًّا واحترامًا، ويورثهم في رأي أولي الأمر مقامًا كريمًا، أفلا نذكر أيام كان أمراء الإسلام يعرفون في طائفة من العلماء رجاحة الرأي، وصراحة العزم، وخلوص السريرة، فيلقون إليهم بقيادة الجيوش ، فيكفون بأس أعدائهم الأشداء؟ وما كان أسد بن الفرات قائد الجيش الذي فتح صقلية إلا أحد الفقهاء الذين أخذوا عن مالك بالمدينة، ومحمد بن الحسن في بغداد، وعبد الرحمن بن القاسم في القاهرة) . (موسوعة الأعمال الكاملة 5/116؛ دور العلماء في الإصلاح والتغيير).
فالعالم يوظف كل من يدور في فلكه لخدمة الدين والدعوة والإصلاح؛ ويصنع نُخبة من العاملين تنشر علمه وتساعده وتُعينه على الإصلاح والنهوض بالأمة من جديد.
ولا يخفى على أحد اليوم ما يتخبط فيه مجتمعنا -بكل شرائحه- من مشاكل ومعاناة استعصي حلها؛ وقد آن أوان العلماء (ملح البلاد) كي يعودوا إلى مكانتهم ويتحملوا مسؤولياتهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *