صلاح دنيا المسلمين من صلاح دينهم ذ.أحمد اللويزة

لا كلمة اليوم تعلو على كلمة الإصلاح، وتوفير حياة كريمة للإنسان يجد فيها المرء راتبا محترما، وتعليما جيدا، وصحة ملائمة، وتقاعدا مريحا، وإدارة في مستوى الخدمات الجيدة، مع محاربة الفساد المستشري في جميع تفاصيل جسد السياسة والاقتصاد، كل ذلك من أجل مجتمع راق متقدم يحجز تذكرته مع ركاب قطار التنمية والرخاء من دول العالم المتقدم والسائر في طريق النمو.
لكن الملاحظ في كل هذه الجلبة، وهذا الصوت العالي لفئة اعتلت منبر الكلام باسم الشعوب أو تولت تدبير مقاليد الأمور، وتسيير شؤون حياة الناس، أنهم لا يتكلمون على التقدم والازدهار إلا بالتركيز على مطالب الدنيا ولقمة العيش والخبز الكريم رافعين شعار (عيش.. حرية.. كرامة اجتماعية..). وكأن هذا هو السر في تقدم أمة قد اختارت الإسلام دينا لكنها ما ارتضته منهجا للرفعة والكرامة.
حتى بلغت الجرأة ممن مكن لهم من الحديث أن يقيموا ضجيجا وعويلا عبر وسائل الإعلام ويطعنوا في هذا الدين وفي المتشبثين به على أنهم لا يقدمون للأمة برنامجا يحقق مطالب الجسد، ويهتم بالعلوم المادية البحتة، ويحقق الاكتفاء المعيشي بشكل يريح أفراد المجتمع. ويعتبرون الإسلام أمورا غيبية تثبط البشرية عن سلوك منهج الرفاه كما فعل الغربيون على اختلاف مللهم لما قطعوا مع الدين كل صلة وعلاقة.
لكن المؤسف أن ينساق فئام من الإسلاميين وراء هذا الفكر تحت تأثير قوة القصف والهجوم واتباعا لمنهج المداهنة الذي لا يحقق مبدأ ولا يبلغ غاية. وأصبحنا نسمع أن المطلوب توفير الخبز للناس قبل أن نحدثهم عن التوحيد والشرك، والحلال والحرام، والسنة والبدعة، ولا بد للمدعو أن يكون شبعان البطن قبل أن تدعوه إلى الله..
وغير هذا من الكلام الذي لا يستقيم بالنظر إلى منهج الإسلام الدعوي الذي سطره النبي عليه الصلاة والسلام في الإصلاح الدنيوي والأخروي، وهو المنهج المرضي عند الله الذي ارتضاه لنبيه فاستطاع بتوفيق الله أن يغير وجه العالم، ويغير مسار التاريخ ويصبح رعاة الغنم أهل البداء والجفاء سادة الدنيا، يسوسون البشرية بدين الإسلام، ويبتكرون أقوى المناهج السياسية والاقتصادية والعسكرية التي جعلت أمة الإسلام هي الحاكمة، لها الأمر والنهي من الشرق إلى الغرب قرونا عديدة.
لقد جاء النبي صلى الله عليه وسلم يوم جاء بدعوة الإسلام فتبعه المستضعفون من قومه، وقد دعاهم إلى التوحيد ونبذ الشرك، وحرص على تربية جيل يصبر على الضراء ليشكر في السراء، فما زادهم إيمانهم إلا استضعافا وإذاية من رؤوس الكفر، وقد تحملوا كل ذلك لأن النبي عليه السلام ما دعاهم إلى الإيمان بالله إلا رغبة فيما عند الله ولم يعدهم إلا بالجنة، فتبعوه لا رغبة في منصب، أو جاه، وراتب، أو ليوفر لهم قوت الجوع، ودواء المرض، وغيرها من متطلبات الحياة. بل إن إيمانهم أفقدهم كثيرا من لذاتها كمصعب بن عمير، وترك بعض الصحابة الكرام الأموال الطائلة من أجل الدين كما فعل صهيب الرومي، وهجروا الوطن والأهل والثروة وليس معهم إلا ثياب تستر عوراتهم من أجل الإسلام.
حيث ربطهم المربي الكريم بالآخرة فتلهفت نفوسهم لنعيمها ولم يأسرهم نعيم الدنيا الزائل، من كنوز كسرى وقصور الروم التي بشرهم النبي صلى عليه وسلم بفتحها، فلما جاء فتح الله وبسطت عليهم الدنيا ما طغوا ولا تجبروا، حتى إن عبد الرحمن بن عوف؛ وقد كان من أغنياء الصحابة الكرام؛ بكى يوما لما رأى من النعيم وقال: “استشهد مصعب بن عمير وهو خير مني فكُـفّـن في بردة إن غطّت رأسه بدت رجلاه، وإن غطّت رجلاه بدا رأسه، واستشهد حمزة وهو خير مني، فلم يوجد له ما يُكَـفّـن فيه إلا بردة، ثم بُسِـطَ لنا في الدنيا ما بُسـط، وأعطينا منها ما أعطينا؛ وإني لأخشى أن نكون قد عُجّلـت لنا حسناتنا”.
وبكى أبو الدرداء لما فتح الله على المسلمين قبرص ومرت عليه الغنائم والأسرى خوفا على نفسه من فتنة الدنيا وزينتها.
بأمثال هؤلاء من الذين يفرون من المسؤولية، ويطلبون من الدنيا ما يحققون به الكفاف، وإن بسطت عليهم سلطوا على هلكتها في وجوه الخير والبر. وهم أبعد عن الحرص والشره والكسب الحرام والإنفاق الحرام، وسخروا إمكانياتهم المادية لخدمة عقيدة الإسلام ومنهجه كما فعل عثمان حين جهز جيش العسرة، وحين ترك الصحابة المحاصيل الفلاحية وهي على الأبواب، وتقلدوا سيوفهم ونفروا نصرة للإسلام، فكان المسلم عزيزا كريما مصون الجانب أينما حل وارتحل، ويصير الخليفة المعتصم جيشا عرمرما ثأرا لعرض امرأة لا يعرف من هي ولا من تكون، إلا أنها مسلمة صرخت وامعتصماه.
لقد شاءت إرادة الله أن يكون عز المسلمين من إعزاز دينهم، وتمكين دنياهم تبع لتمكين دينهم وليس العكس إطلاقا، وعلى مرّ التاريخ ما رفع الله قدر المسلمين إلا لما رفعوا قدر الإسلام، وما كان القضاء على التتار والمغول والصلبيين وكل أعداء الأمة الإسلامية إلا لما كان الإسلام هو القائد، وهو المنهج المرتضى في الإصلاح.
وهذا ما أقره القرآن والسنة كما في قوله تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} فالاهتمام بالدين والالتزام به مقدم هنا، وبه تحقق مطالب الدنيا حتى لا تتحول إلى عامل طغيان، وهو كذلك إذا لم يكن هناك إيمان يحجزها.
ومثله قوله عليه الصلاة والسلام: “إذا تبايعتم بالعينة، ورضيتم بالزرع، وأخذتم أذناب البقر، وتركتم الجهاد في سبيل الله، سلط الله عليكم ذلا لا ينزعه عنكم حتى ترجعوا إلى دينكم”، وقد تبين من هذا الحديث أن العزة والرفعة لهذه الأمة تكون بخدمة الدين أصالة، أما إفراغ الوسع في تحقيق ملذات العيش هو سبب انتكاسها وضلالها ومذلتها، والتاريخ والواقع خير شاهد، بل إن الواقع لمزر غاية الإزراء حيث أمة الإسلام لا دنيا كسبت وهي همها وديدنها، ولا دين به تمسكت، فخسرت الدارين، وصدق القائل حين قال:
نرقع ديننا بدنيانا فلا… ديننا يبقى ولا ما نرقع
وقد رأينا من يتنكر لدينه من أجل دنيا زائلة، فيكتب الله عليه شقاء الدنيا فلا يفرح بلذة ما كسب منها، وأما الآخرة فربك فعال لما يريد.
إن أمة تريد مجدا وكرامة وعدالة تحتاج إلى التضحية بالدنيا من أجل الدين، حتى إذا سطع نجم الإسلام سطع معه نجم الدنيا، فهذه سنة الله في هذه الأمة، وإن تضييع الجهود والأوقات والإمكانيات في غير هذا المنهج لمكللة بالفشل، لأنها تخالف مجرى التاريخ وسنن الله الكونية.
ولا نغتر بشأن غير المسلمين فتلك حسناتهم عجلت لهم في الدنيا واستدراج من رب العالمين. وتلك أمة ونحن أمة قضى الله ما قضى على لسان نبيه الكريم “وجعل الذل والصغار على من خالف أمري”، واذكروا قول عمر رضي الله عنه وعضوا عليه بالنواجذ: “نحن قوم أعزنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا العزة في غيره أذلنا الله”.
فتنبهوا يا من يريد أن يتبنى الإصلاح بمنهج الإسلام حتى لا تبوء جهودكم بالخذلان، فإن أمة فرغت قلوبها من الإيمان، وامتلأت بحب الدنيا، لو مكنت منها في هذا الوقت لكانت سبيلا للطغيان والانحراف عن منهج الله، واقرؤوا إن شئتم قول الحق سبحانه: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى، أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى}.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *