من أخطاء التفسير عند محمد عابد الجابري (ج3)

من أخطاء التفسير عند محمد عابد الجابري (ج3)

 

من حقنا أن نتساءل -مع القارئ الكريم- في هذا المقام: إذا كان الجابري يقتنع حقيقة بمخاطبة القرآن لأهل كل زمان ومكان، فلماذا سعى -غفر الله له- في طول كتابه وعرضه، إلى ربط أحكام القرآن الكريم، بأشخاص معينين، أو بفئات محددة من عصر النزول، وتأويلها على نحو يوحي للقارئ وكأن أولئك الأشخاص وحدهم، وتلك الفئات وحدها المعنية والمخاطبة بأحكام الشرع دون سواها، بدعوى نزولها بسببهم، وهو العارف بعلم أصول الفقه، المستوعب لقاعدة: “العبرة بعموم الألفاظ لا بخصوص الأسباب”، التي عليها جمهور الأصوليين.

ولذلك توسع -غفر الله له- في البحث عن أسباب النزول، وحشر كل غث منها وسمين، كأنه حاطب ليل، حتى وصل به الأمر إلى حد تخيلها وافتراضها في أحايين كثيرة، مع أن طريق إثباتها هو طريق الرواية لا غير، كما بالغ في ربط الأحكام الشرعية بها، تحت ذريعة ما يسميه: بـ”قراءة القرآن بالسيرة والسيرة بالقرآن”، على محدودية ثقافته الحديثية، وقلة خبرته بجانب الصنعة الحديثية، ولنا عودة مفصلة إلى هذا الموضوع في مقامه المناسب بحول الله.

كما ومن حقنا أن نتساءل، عن علاقة منهج توظيف الجابري ل “أسباب النزول”، بفكرة “الأرخنة” أو “التاريخانية” التي أخذها الحداثيون العرب عن شيوخهم الغربيين، من الفلاسفة الهيرمينوطيقيين الألمان، أمثال هايدغر وغادامر، ومن التفكيكيين الفرنسيين، أمثال كوك وكرون وجون واسبنرو، وبالخصوص مؤسس التفكيكية جاك دريدا[1]، والتي سعوا من خلالها إلى قصر النص القرآني على بيئته الزمانية والمكانية والبشرية الأصلية، ورفض تعديته إلى سواها، وإلى التشكيك – بالتبع – في خلوده وصلاحيته لكل زمان ومكان، وفي قدرته على استيعاب البيئات المتباينة والظروف الطارئة والنوزل المستجدة.

بل وصل الغلو في القول بـ”الأرخنة” ببعض الحداثيين، أمثال نصر حامد أبو زيد، إلى درجة اعتبار القرآن الكريم “منتجا ثقافيا” يحمل بصمات البيئة الاجتماعية والثقافية التي ظهر فيها، وفي ذلك يقول: “إن النص في حقيقته وجوهره منتج ثقافي، والمقصود بذلك أنه تشكل في الواقع والثقافة خلال فترة تزيد على العشرين عاما، وإذا كانت هذه الحقيقة بديهية ومتفقا عليها، فإن الإيمان بوجود ميتافيزيقي للنص سابق للنص يعود لكي يطمس هذه الحقيقة البديهية ويعكر من ثمّ إمكانية الفهم العلمي لظاهرة النص”[2].

وهنا نتساءل: كيف لمن يعتقد أن القرآن الكريم “منتج ثقافي”، تشكل في الواقع والثقافة كأي نص، ولا يرى لهذا النص الرباني أية ميزة أو خصوصية، بل لا يؤمن أصلا بأنه منزل من عند الله، كيف يؤتمن على القرآن والتفسير، وكيف يؤخذ عنه فهم أو تأويل. إن هذه النظرة التي تجرد النص القرآني الكريم من أية قداسة أو خصوصية، حاسمة في فهم تعامل الحداثيين معه، واستخفافهم بمضامينه ومعانيه، وتطاولهم على أحكامه ومقاصده، كما سنبين لاحقا بحول الله.

وإنما استمد نصر حامد أبو زيد “تاريخية القرآن”، التي سعى من خلالها إلى هدم ربانية القرآن الكريم، وإلى تكريس اعتباره نصا عاديا كسائر النصوص، إنما استمدها من شيخه محمد أركون في “إسلامياته التطبيقية”، و”قراءاته المعاصرة للفكر الإسلامي”، إذ يرى هذا الأخير، أن فكرة “الأرخنة” موجودة في الفكر الإسلامي القديم، و أن أول من قال بها هم المعتزلة من خلال القول ب “خلق القرآن”، ويرى أن استعادة هذه الفكرة من شأنه أن يدفع الفكر الإسلامي نحو آفاق أوسع وأرحب، يقول: “عندما دافع مفكرو المعتزلة عن مفهوم خلق القرآن، كانوا قد أحسوا بالحاجة إلى دمج كلام الله في سياق التاريخ، إذا ما استعاد الفكر الإسلامي اليوم هذه الفكرة فإنه عندئذ سوف يمتلك الوسائل الكفيلة بمواجهة المشاكل التي تنثال على الفكر المعاصر من كل حدب و صوب بمصداقية أكبر و ابتكارية أقوى وأعظم”[3].

لم يشرح لنا الدكتور أركون كيف لفكرة شاردة، شذ فيها المعتزلة عن سائر مذاهب وطوائف الأمة، هي فكرة “خلق القرآن”، أن تفتح للفكر الإسلامي آفاق التطور والتجدد، وأن تمكنه من مواجهة كل الأسئلة والتحديات، بل لم يهتم أصلا بتأصيل الفكرة والاستدلال لها من مصادر الإسلام، وهي الفكرة المقطوعة الصلة بالقرآن والسنة، والمصادمة لعشرات الآيات والأحاديث الصريحة في الدلالة على نزول القرآن من عند الله.

إلى درجة أن من أسماء القرآن “التنزيل”، إشارة إلى نزوله المنجم من عند الله، تيسيرا لحفظه وفهمه من قبل الأمة، ومواكبة للحاجيات المتطورة للأمة، في مجالات التزكية والتشريع والعمران. لعل مقصود أركون -ببساطة- هو أنسنة وأرخنة النص القرآني الكريم، لتجريده من أبرز سماته، التي هي ربانيته وقداسته، حتى يسهل لي أعناق نصوصه، والعبث بمضامينه، والذهاب بدلالاته ومعانيه كل مذهب، دون تدخل ولا رقابة من أحد، وهذا ما لن يحدث يوما، لأنه معارض لحفظ الله عز وجل لألفاظ ومعاني كتابه المبين، كما قال سبحانه: (إِنَّا نَحنُ نَزَّلنَا الذِّكرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[4]، ومصادم لحديث النبي الكريم: (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله، ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين”[5].

عموما، فإن ما ذكرناه من تبني الجابري -مع زملائه الحداثيين- لفكرة “القطيعة الإبستيمولوجية” مع التراث، ولفكرة “أرخنة القرآن الكريم”، وإن أثار عندنا من الأسئلة والإشكالات ما أثار، فإنه ليس كافيا -لحد الآن- لتبين مفهومه لتجديد فهم القرآن الكريم، ولذلك فنحن مطالبون بمزيد من التريث والتأني، وبعدم التسرع في إصدار أي حكم، في انتظار أن تتضح ملامح ذلك المفهوم عند الرجل، وليس أدل ولا أكثر تعبيرا عن ذلك، من تعامل الرجل مع القرآن الكريم، ومن طريقته في تأويل آيه، من خلال مشروعه “فهم القرآن الحكيم”.
————————-
[1]. طرح “جاك دريدا” آراءه في ثلاثة كتب نشرت في سنة 1967م وهي “حول علم القواعد”، و”الكتابة والاختلاف”، و”الكلام والظواهر”، والمفهوم العام لهذه الكتب يدور على نفي التمركز حول الميتافيزيقا (الغيبية الدينية) المتمثلة في الثقافة الغربية الوسيطة.
[2]. “مفهوم النص: دراسة في علوم القرآن” للدكتور نصر حامد أبو زيد، ص 24، المركز الثقافي العربي.
[3]. “الفكر الإسلامي: قراءة علمية” لمحمد أركون، ص 82، ترجمة: هاشم صالح، المركز الثقافي العربي و مركز الإنماء القومي.
[4]. الحجر:10.
[5]. رواه البيهقي في مشكاة المصابيح، كتاب العلم، الفصل الأول، 1/53، تحقيق العلامة محمد ناصر الدين الألباني، وصححه الإمام أحمد.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *