الحلقة 9:
مِن أين يمرّ الطريق؟
أصول مفاهيمية فلسفية
2-مركزية العقل
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله.
ما أغرب أن يُستدعى النقاش الإسلامي الكلامي التراثي، عند بحث العقلانية وأهمية العقل في الحضارة الحديثة!
هو أمر غريب، لأن هذا النقاش التراثي كان داخل المنظومة الإسلامية، وكان جميع أطرافه مقرّين -ولو من الناحية النظرية على الأقل- بمرجعية الوحي وتعاليه على جميع المرجعيات الأخرى، وعلى أن المطلوب معرفة مراد الله تعالى من المكلفين، وهل هو في ظواهر النقل أم في ثوابت العقل أم فيهما معا، وعلى أية صورة يكون هذا الجمع بين النقل والعقل.
أما العقل الغربي الذي أنتجه عصر التنوير، ويراد للأمة اليوم أن تعظّمه على حساب تراثها بل على حساب الوحي المعصوم، فهو عقل متحرر من الدين مطلقا، متجاوِز لمرجعيته، مخالف لقيَمه؛ لا يعترف للدين إلا بدائرة ضيقة، هي دائرة الاقتناع الروحي الفردي مع الإقرار بمخالفة هذا الاقتناع للعقل، والاعتراف للعقل بهيمنته الطبيعية على جميع وسائل الإدراك الأخرى.
العقل الغربي التنويري عقل علماني في عنوانه، وإلحادي في مضمونه!
بدأ تعظيم العقل منذ عصر النهضة، لكن مع إبقاء الدين في مكانته التي اكتسبها في الوعي الأوروبي منذ قرون عديدة. واتخذت فورة العقل في هذه المرحلة صيغتين اثنتين:
أولاهما: تحرير العقل من ثوابت الكنيسة المتعلقة بالعلوم الكونية، وهي الثوابت التي اقتُبست من علوم الإغريق –خاصة من المشّائين-، وتحولت في يد رهبان الكنيسة إلى دوجمائية متعصبة لا تمتّ إلى أصول العلم بأدنى صلة، وإنما هي مجموعة من الأفكار الجامدة، غير القابلة للتطوير ولا للمراجعة الاستدلالية، والتي أُوِّلت على وفقها نصوص الكتاب المقدّس، وصارت عِلما في الشعار، وإيديولوجيا دينيةً في الحقيقة، يعد الخروج عليها هرطقة تستدعي العقاب! فالأرض مثلا – بمقتضى هذا العلم الإغريقي/الكنسي مسطحة تدور حولها الكواكب كلها ومنها الشمس، ومن خالف في هذا عدّ مبتدعا يحتاج إلى توبة وإنابة!
فالثورة الفلكية الكوبرنيكية والجاليلية هي تحرير للعقل من سلطة هذه الدوجمائية الكنسية، وبعثٌ له في فضاء العلم الرياضي والتجريبي.
والثانية: تحرير العقل المتدين من خرافات العقيدة الكاثوليكية التي يحرسها رهبان الكنيسة. وهكذا صارع قادة الإصلاح الديني لنبذ العقائد المخالفة للعقل في التراث الكنسي، وذلك على جبهات مختلفة، منها على سبيل المثال:
• جبهة التوحيد: وفيها حصل إنكار التماثيل والصور والأيقونات التي تملأ الكنائس، وعدّ ذلك نوعا من الشرك المخالف لبدائِهِ العقل (وفي ذلك تأثر مشهور بصرامة التوحيد في الإسلام).
• جبهة الوساطة بين الرب والعبد: وفيها حصل إنكار بيع الكنيسة صكوك الغفران، مخالِفةً بذلك أصول العقل السليم!
• جبهة العقائد النظرية: وفيها النقاش مثلا حول قضية تحول جسد المسيح (عليه السلام) إلى خبز، ودمه إلى خمر، وأن ذلك على المجاز لا الحقيقة.
• جبهة تأويل الوحي: وفيها وقع إنكار احتكار الكنيسة فهم نصوص الكتاب المقدس، وفتح المجال -بعد ترجمته إلى اللغات المحلية– لإعمال العقل في فهمه وتأويله من كافة المؤمنين به.
ثم بعد عصر النهضة، أخذ عصرُ الأنوار المشعلَ في سباق تعظيم العقل، ولكن مع فارق مهم، هو تميز الأنوار بتأخير الوحي في مجال المرجعية، وإعطاء مكانته للعقل مطلقا.
يمكننا القول إن ملخص فكر الأنوار هو إخضاع الفكر في الحسّي والغيبي إلى سلطة العقل البشري، ومنحه الحرية الكاملة في كل مجال، دون قيد ميتافيزيقي؛ أو كما يقول الفيلسوف الألماني كانط: (وليس هناك شيء يتطلبه التنوير قدر ما يتطلب حرية الاستخدام العلني للعقل في كل الأمور).
ووصل الأمر عند دعاة الأنوار إلى قمته “السريالية” حين قرر بعض قادة الثورة الفرنسية في مرحلة معينة إلغاء الديانة الكاثوليكية، وإعلان “عبادة العقل” (Culte de la raison) دينا رسميا للدولة الفرنسية، وتحويل بعض الكنائس إلى “معابد للعقل”!
وكجميع أنواع الغلو الفكري، انتكست عبادة العقل في السنوات اللاحقة، وعرف القرن التاسع عشر صراعا فكريا مريرا بين العقل والدين، وبين العقلانية المتطرفة والمذاهب الفلسفية التي تعطي العقل حجما أكثر اعتدالا.
ولكن –على العموم- استقرت أهمية العقل في الوعي الغربي، على الرغم من الاختلافات الفلسفية الكثيرة، وذلك من خلال مجموعة من المحاور:
الأول: الاعتداد المطلق بقدرة العقل البشري على حل الإشكالات الحضارية التي طرحتها الحداثة، دون حاجة إلى مرجعية متجاوزة (أو بعبارة أخرى: الاعتداد بقدرة المخلوق من خلال عقله، على الاستقلال عن عبادة الخالق وتوحيده!).
والثاني: أهمية العلم الكوني (التجريبي أو الرياضي) المنبثق من سلطة العقل اللاديني في تحرير الإنسان وانطلاق إبداعه وتحقيق رفاهيته، ومحورية العلوم الإنسانية الخاضعة لآلية العقل الغربي العلماني/الإلحادي، مما أنشأ مجموعة من النظريات اللادينية المتحكمة في علوم الاجتماع والسياسة والنفس والاقتصاد.
والثالث: إخضاع الوحي –حتى في الجانب الغيبي والروحي وفي الدائرة الفردية الضيقة– لتفتيش العقل العلماني/الإلحادي، ورقابته الصارمة. ومن الطريف حقا أن أرى راهبا نصرانيا يتحدث في قناة تلفزية فرنسية، فيقول ما معناه: “أعتقد أنني حين أفعل الخير سأنال الجزاء من الرب في الجنة، أو على الأقل هذا ما أتمناه!”.
فتأمل أن المتدين الغربي –خاصة في ظل العلمانيات المتوحشة كالعلمانية الفرنسية- لا يستطيع التصريح بالعقوبة الأخروية لمخالفتها لقواعد هذا العقل، ويقدّم الثواب الأخروي في ألطف العبارات وأبعدها عن الجزم، كل ذلك ليرضى هذا العقل الغربي المتغوّل عن العقيدة الدينية حتى في دائرتها الفردية!
والله الموفق.