وجه المغالطة في حقيقة الرمي بتهمة “الاتجار بالدين” محمد بوقنطار

ما أظهرته الأحداث المتوالية خلال الحملات الانتخابية للأحزاب المغربية، من جنس ما كان يقرع آذاننا من شعارات وخرجات لامست سقف التطرف والعنصرية، مما نضحت به خطابات واستجداءات ومناجاة الكثير من الوجوه السياسية المستمرأة الظهور…
ولعل سامعا وهو يسمع على سبيل المثال لا الحصر لكبير الاشتراكيين ومحنك سياسة حزبهم العتيد يصول ويجول متوعدا المغرب وأمن المغرب وشعب المغرب بالفوضى والحرب الأهلية، على شاكلة ما حصل ويحصل في العديد من الدول العربية الإسلامية، بدءا بالعراق وسوريا واليمن، وتعريجا على مصر وليبيا، ووصولا إلى أفغانستان، لعله وهو يسمع للاعتسافه المنغوم يتوهم أن السيد الأمين العام لحزب الاتحاد الاشتراكي يستشرف بالراجح إمكانية حصول طالبان أو جماعة بوكو حرام أو دواعش العراق وسوريا على امتياز تشكيل الحكومة المغربية، وترأس هيأتها، كل ذلك في حالة حصول حزب العدالة والتنمية المغربي على أغلبية أصوات الناخبين المغاربة في انتخابات السابع من أكتوبر …
ولسنا في حاجة إلى الإيغال بتفصيل مع ما جاء على أفمام معشر المغلوبين قبل أن يغلبوا، يوم كانوا يستشرفون سراب النصر وينشدون الغلبة والتفوق والتميز والاستئساد، ويبنون استشرافهم على التدليس والمداهنة…
وليس يدري المرء أي ديموقراطية هذه التي يعتلي فيها السياسي المنابر ليواجه بوجه صفق صلد الحاضرين من خليط المجبورين والمتبصرين وعابري السبيل، وأغمار الناس وسفلتهم بخطاب ملؤه التهديد والتوعد والوعيد وإيقاد فتيل العداوة بين أطياف النسيج المجتمعي، وإشراكهم في منظومة افتعال الضجيج وصناعة النبز والتراشق والملاسنة، وقس على هذا التسفل بما يدخل في جنسه ومسماه مما تراه وتتلمس وجوده في هذا النوع من الخطاب السياسي الذي غابت عنه قواعد التعاقد وبنود التشارط الذي يحكم مجاله طرفي الحق والواجب وعوارض برامج التنمية وآليات مواجهة خطر الفقر المادي والعوز الفكري…
ويا ليتهم تفاصحوا بلسان البلغاء ولباقة الكبراء سعيا منهم لتكثير سواد من يسمونهم تجوزا بالمناضلين والرفاق، ومن تحزبوا بغثة وتولد عندهم الحس المصلحي السياسي فجأة، دون مؤشرات ولا مقدمات تحكي عن صدق الانتماء وعمق الانتساب، فلكان أسعفهم تمني “يا ليت” في مقام مداراة وتورية ما تحويه وتشتمل وحوته واشتملت عليه أحشاؤهم من خطورة التمرد ونفس الانقلاب وممالأة الانفصال، يشهد عليها تاريخ الأمس القريب، ويوقع عليها اليوم لسان المقال بالصوت والصورة والرائحة، وإن كانت الدراسات قد ضربت عنها الذكر صفحا، مع أن الواجب الشرعي والكوني كلاهما يذهبان مذهب الاتفاق على واجب مدافعة وفضح ونسف مثل هذا الفصام بالنقد والتحليل، وربما كان هذا الصفح راجعا بالأساس إلى كون أغلب هذه الحركات وعلى رأسها الطيف الماركسي العربي، قد ولدت مستهلة مستترة وراء ستار القضايا الاجتماعية ذات المعطيات والملفات الثقيلة، وزيف الاصطفاف إلى جانب الطبقات المطحونة والفئات الكادحة التي تعاني تحت وطأة نظام رأسمالي قمعي شمولي، ربما كان بعض من ينتحلون الماركسية على مستوى المقال يمارسون تجاوزاتها من جهة حقيقة الواقع والحال…
ولا شك أن العين المجردة لا تخطئ رسومهم وهم يسكنون أفخم المغاني ويمتلكون الضيعات الضاربة في الطول والعرض، ويركبون السيارات المصنفة، ويرسلون فلذات الأكباد ليس إلى روسيا والصين حيث مسقط رأس الفكرة، فكرة تربيب الطبقة العاملة وواجب استئثارها بإدارة الشأن العام وامتلاك وتأميم وسائل الإنتاج، وإنما الإرسال والبعث يذهب في صوب عالم الليبرالية المتوحشة، حيث يأخذ الطلاب الدروس الأولية والممهدة للحلول محل آبائهم في إدارة تركة المال والسلطة، ثم يأخذون جرعا وافية من الدروس والنظريات التي تدور محاور فلسفتها واستراتيجية تنزيلها في مراد ومبتغى زعزعة ثوابت الأمة وتشكيك الطبقة العاملة ومن يدور في فلكها من فروع وأصول وأهل محلة في مسلمات دينهم الذي ارتضاه لهم ربهم وخالقهم ومصورهم ورازقهم… تحت ذريعة أن هذا الدين بأحكامه وطبيعة شموليته واستيعابية نصوصه لكل مناحي الحياة، وأنه الشمول الذي يلزم منه التحكم والتحجير على الطاقات العقلية الكامنة في جوف الناس، بل ويعتبرونه السبب الذي يمكن تحميله وزر ما الأمة عليه من ضعف ووهن وتخلف وتنكب عن مرافقة الغرب فيما وصل إليه من تطور مادي باهر…
والأكيد الذي نؤمن به أن هذا التطور المادي لا يساوي ذرة نور من الهدايات الغالية التي بين أيدينا، والتي كان لها الفضل بعد الله في المشي بنا إلى الأمام، ونقلنا من نقيصة الجهل إلى كمال الحِلم، ومن مراتع الكفر والجحود إلى نور العزة والتمكين والصمود، قبل أن يصطدم هذا السير والسيل العرم بهذا الزحف الهمجي الحائف في ثوبه المدني الزائف…
هذا ولمّا كانت علمانية القوم ودعوى ديمقراطيتهم قائمة على الخداع والفتنة والتصلف في الترويج للمغالطات، والتي للأسف نجد أن الكثير منها قد صادف هوى في نفوس وأفئدة المتربصين والحاقدين بقصد أو غيره من عوام الناس وأغمارهم من ضحايا هذا الخطاب التلفيقي، وجب الوقوف مع بعض هذه المغالطات التي خرجت مخرج الاتهام الذي تجاوز الظواهر إلى السرائر، والتي استمرأتها أفمام هؤلاء سواء تعلق الأمر بالتوطئة أو عرض الكلام أو ذيله محبورا كان أو ارتجاليا يزاور ذات اليمين وذات الشمال…
ويحسن هنا أن نؤكد على مغالطة اطرد ذكرها وتكرر الرمي بها، وهي مغالطة “الاتجار بالدين” واللعب على وتره الحساس استذرارا لعواطف الجماهير كما هو الزعم القائم، ولا شك أنها مغالطة قبل أن تكون تهمة تحمل قرائن الاتهام، وذلك من جهة أن الحزب نفسه موضوع ومحل الاتهام ما فتئ وهو في المعارضة أو هو يقود ويترأس الحكومة يدندن بمعرّة حول حقيقة براءة حزبه من المرجعية الإسلامية في مقامي الاستمداد ثم الإمداد، ولا شك أن خرجات رجالاته وأطره سواء تعلق الأمر بجناحه الدعوي أو السياسي الحزبي، كما برامجه ومشاريعه تظل الشاهد الأقوى والأثقل الذي يمكن الفزع إليه لتبرير أو الوقوف على حقيقة النَفَس العلماني للحزب في متعلق عقد تأسيسه الأول أو مسيرة نضاله السياسي في صفوف المعارضة أو النسيج الحكومي بين عهدي المهد واشتداد العود.
اللهم إن كانت التهمة ورميها يستهدف الحياة التعبدية والشعائرية الشخصية لأصحابه ومؤسسيه والمنخرطين في صفوفه الأولى، فهذا أمر آخر ليس هذا مقام بسطه، ولعل السكوت عنه فيه ما فيه من الحكمة من باب مجانبة هدر الطاقة في سفاسف الأمور وتجنب الإلقام الكلبي الذي تصير معه الحجارة غير المسومة بمثقال من ذهب…
ويبقى السؤال الذي يفرض نفسه في هذا المقام هو الذي يأتي في صيغته مستشرفا ما وراء أكمة الرمي والاتهام بمثل هذه التهمة، من طرف من يعلمون زيف وجودها وحقيقة عدمها في السياسة المعلنة والمضمرة لحزب المصباح المغربي، ولا شك أنه استشراف يحيل على آخر مفاده أن بغية القوم من الرمي، ودافعهم الأول هو العزف على الحبل الحساس في وجدان ودواخل الجماهير التي يريدون استمالتها، وسوق وردها إلى تكريس زعاماتهم المحلية منقلبة على من تورط في نقيصة المتاجرة بدينهم، وذلك لعلم القوم بحقيقة انتساب المغاربة، وصدق انتمائهم، وشديد غيرتهم، وكبير حرصهم على حمايته من مغبة وجوده إلى جوار الضلال والتهافت السياسي الوضعي، واستعماله كطعم ملغوم تستدرج به الجماهير المنيبة له في تعظيم وإخبات وتمارس استفززها في غضب يفقدها امتياز الحياد أو ترشيد الصوت إعمالا لقاعدة الأخف ضررا.
ولا شك أنهم استفادوا ولم يستفيدوا في هذا الخصوص من الركام المعلوماتي الدقيق الذي أفرزته بعض أو كثير من الدراسات المحلية والغربية في إطار رصدها وتقنينها للجرعات الإيمانية المتصاعدة والتي تحكي واقع الصحوة الإسلامية وتنامي منسوبها في حياة المغاربة خصوصا والناس أجمعين عموما…
ويا ليت الاطراد طبع علمهم بهذه الحقيقة، ويا ليت البيانات والمنحنيات استأمنتهم على عتبات أرقامها، لكان هذا التمني كفيلا بردع وكف وإمساك كبير الحداثيين الشعبويين واسترجاعه دون التجشؤ بكلام من قبيل: “جئنا لنواجه الإسلاميين حماية للمسلمين” ضاربا قواعد النسبة بعرض الحائط مستكبرا في عتو وتكبر، ومفرقا بغير مفرق بين الإسلاميين والمسلمين…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *