الحمد لله الذي أبدع في خلق العباد، وسطر أرزاقهم وأقواتهم بالمداد، وفاوت بينهم في الكد والاجتهاد، حتى لا يكون ما يجنونه من أموال وعتاد، وسيلة للطغيان والفساد، أحمده حمد من يعلم أنه بالمرصاد، لكل من سار على منهج ثمود وفرعون ذي الأوتاد،
وأشهد بوحدانيته شهادة مؤمن موقن مخالف لما ألفت قريش وقوم عاد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليبشر الناس وينذرهم هول يوم المعاد، فعلمهم الأدب وأن لا يسجدوا لغير رب العباد، وحذرهم المعاصي وأكد أنها سبب تدمير البلاد، فصلوات الله عليه وعلى صحبه وعلى كل من اقتفى أثره أخلاقا وجهاد، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الحساب والتناد، وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد،
فإن الشيطان يُفرخ أبناءه كلما استبد الجهل بعقل الشباب الحيران، وبعد عن أنوار العلم والعرفان، فيُزيِّنَ له الكسل والسبات والخلود لأرض الهوان، ويصور له هذه الأخلاق الذميمة في صورة زاهية تبهج النفوس الكئيبة، فيحاول أن يغالط نفسه ويقنعها بأنها لا تتصف بهذه الصفات الرذيلة، ويلبس عليه إبليس اللعين، بأن الانقطاع عن العمل ليس باختياره وإرادته، ولو كان يملك حرية الاختيار، لاختار أن يعمل اليوم قبل الغد، ولكنه الواقع هو الذي يجبره على العطالة، فمنافذ الشغل مقفلة ومعطلة، والكل يشتكي من تخمة البطالة•
وعوض أن يشغل بعضُ الشباب نفسه بعلم من العلوم النافعة أو عمل من الأعمال المفيدة، التي قد تعود عليه وعلى مجتمعه بالنفع الجليل والخير العميم، يُبذر جهوده وأوقاته في القيل والقال وكثرة السؤال وسبِّ الحكام والمناظرات الجدلية العقيمة والغيبة والنميمة، وملاحقة الجرائد والقنوات الإعلامية التافهة، زعما منه أنها تعينه على فقه الواقع، ولكنه لا يفكر البتة في تغيير هذا الواقع.
والأفحش من هذا، ومما يبكي الدمع ويثير الأحزان، تعيش أسر أولئك الشباب أحوالا مأساوية يُرثى لها، فقر مدقع، ظروف سكنية بسيطة، آباء عجزة لم تعد لهم قدرة على الاشتغال بهِمة ونشاط كما كانوا فترة شبابهم، وبدل أن يفكروا بأوضاع أسرهم المزرية، ويحاولوا على قدر استطاعتهم، أن يحترفوا إحدى المهن الشريفة بغرض التخفيف من حدة المشاكل التي تراكمت على أهاليهم، يمطرونهم بالسب واللعن والقدح والتكفير.
بل إن بعض الإخوة الشباب يتسخط لأن مصدر أكل أسرته حرام، ولم يفكر أن الحرام هو أن يقعد عن العمل ويضطر أسرته لسؤال الناس والمتاجرة بالحرام، وآخر يدخل عراكات كلامية مع والديه وإخوته، لأنهم يحضونه على الشغل بدل التسكع في الطرقات وملاحقة الفتيات، ووصل الأمر ببعض الشبان الطيبين ممن التزم حديثا أن يفكر في مغادرة منزله ومقاطعة عشيرته، باحثا عن مكان يأوي إليه، حتى يكون بمنأى عن تعليقاتهم وانتقاداتهم.
وفئة من الشباب لها استعداد للعمل، كما أنها سئمت حياة البطالة والفراغ، لكنها تستنكف عن الاشتغال في الأعمال الحرفية أو التجارية المتعبة، وتشترط شروطا أرستقراطية رفيعة المستوى، أن تعمل عملا مريحا لا يكلف جهدا ومشقة كبيرة، وحبذا لو كان العمل في إحدى وظائف الدولة، فإن ذلك يبعث على الطمأنينة والارتياح، هذا دون أن نتكلم عن شباب قوارب الموت الذي أصبح يلقي بنفسه للتهلكة في أعماق البحار سفرا إلى بلاد مستعمري الأمس القريب.
فمناقشة هذا الموضوع إذن أمر ضروري ينبغي أن تكرس له الجهود والبحوث والمقالات، لإيجاد الحلول الناجعة الكفيلة بإزاحة هم ثقيل يجثم على كاهل كثير من الشباب، لذا على دعاتنا وطلبة العلم فينا أن يهتموا بفئة الشباب هذه وأن يبذلوا قصارى الجهد في إيصال خطابهم إليهم، لأنهم إن أغفلوا الاهتمام بمشاكلهم ومعاناتهم، وتركوا المجال رحبا للتيارات العلمانية الهدامة التي أوهمت كثيرا من الشباب السذج، أنها تعني بمعالجة همومهم وقضاياهم، بينما هي في الحقيقة لا تكترث إلا لأصواتهم الانتخابية التي تؤهلها لاحتلال كراسي البرلمان، وبمجرد ما تقفز إلى السلطة، وتستحوذ على مقاليد الأمور، تتناسى ما كانت تقدمه لهم من وعود جميلة ، وتتبجح بأعذار تافهة أصبحت ممجوجة لكثرة اجترارها وتكرارها.
بديهي فأنا لا أريد أن أسير في هذا الخط، خط انتقاد الأحزاب السياسية العلمانية، وتحميلها تبعة عطالة وبطالة الشباب، على اعتبار أن هذا الأسلوب لن يرسخ إلا قيم السب والشتم والحماس الفارغ وتعليق أخطاء الذات على مشجب الآخرين وعدم اتهام النفس.
طبعا فأنا لا أبرئ الاتجاهات العلمانية، لما وصلت إليه الأمة من فساد وذل وتبعية ومحسوبية على جميع المستويات، كل ما في الأمر أنني أفضل أن أثير النقاش بعيدا عن التهويش السياسي والنقد الحزبي، ساعيا نحو إصلاح المفاهيم التي انحرفت، وضبط الموازين التي انطمست وإحياء المبادئ التي اندثرت.
تحقيقا لهذا الغرض، وسعيا نحو تحفيز الشباب لكي ينفض عنه غبار الكسل والاتكالية، دبجت سلسلة من المقالات تعالج هما يؤرقهم ويعكر صفو حياتهم، إنه هم الشغل، وسيكون موضوع الحلقة القادمة بإذن الله: « الشباب وابتلاء الفقر»
أسأل الله العظيم رب العرش الكريم، أن ينفع الشباب المسلم بهذه السلسلة من المقالات، ويجعلها خالصة لوجهه الكريم، إنه ولي ذلك، نعم السميع ونعم المجيب•