يردد كثير من مناوئي الخطاب الشرعي قولهم بأن الفكر الديني المحلي استغرق في القضايا الشكلية كاللحية والإسبال، وترك قضايا الجوهر الأخلاقي كالأمانة والإحسان إلى الناس وحقوق الغير ونحوها، حتى صار التدين شكلياً، وصار مفهوم التدين مرتبطاً في الوعي الشعبي بقضايا القشور، وقد لاحظت أن أكثر قضية أخلاقية يرددها هؤلاء المناوئين هي قضية “قيم العمل” أو “احترام المهنة”، وأنها قيمة أخلاقية غائبة كلياً في الخطاب الشرعي، مما أدى إلى تحوله إلى تدين مظهري مجوف غير حقيقي.
هذه الفكرة/الشعار تتكر كثيراً كثيراً، فما مدى يا ترى علمية هذا الاحتجاج؟ وهل فعلاً أن الخطاب الشرعي يهمل قضايا الأخلاق كالأمانة وقيم العمل والوظيفة؟ نحتاج في فحص مصداقية هذا النقد وموضوعيته إلى عرض نماذج من منتجات الخطاب الشرعي في قضايا الأخلاق.
سنأخذ عينيتن يصدق عليهما أنهما ممثل نموذجي، فنموذج من الفقهاء أصحاب الفتيا، ونموذج من الدعاة واسعي الانتشار، لكي يمكن أن نكون قدمنا حكماً أقرب للدقة في تصور واقع الخطاب الشرعي.
فمن شريحة الفقهاء أصحاب الفتيا: لنأخذ العلامة الإمام ابن عثيمين، وهو أهم مرجعية فقهية سنية معاصرة على الإطلاق، فبسبب كثرة نتاج الشيخ في قضايا “قيمة العمل وأخلاقيات المهنة” جمعت فتاواه المبثوثة فبلغت مجلداً كاملاً مخصصاً فقط لفتاوى الموظفين، كما جمعت له رسائل أخرى عن الطبيب وغيره.
والشيخ ابن عثيمين معروف بكثرة احتياطه في جانب (أمانة العمل الوظيفي) باعتباره عقداً، والشارع عظّم الوفاء بالعقود، حتى بلغ الحال بالشيخ أنه كان يفتي للمؤسسات المهنية إذا كان خروج الموظفين للصلاة في المسجد سيترتب عليه التفريط في حقوق العمل بأن يصلوا في مقرات العمل، ومن ذلك مثلاً قوله في الشرح الممتع:
(بعض الموظفين لا يخافون الله، فإذا خرجوا إلى الصلاة خرجوا إلى بيوتهم، وربما لا يرجعون، ففي هذه الحال نقول: صلوا في مكانكم، لأن هذا أحفظ للعمل وأقوم، والعمل تجب إقامته بمقتضى الالتزام والعهد) (الشرح الممتع 4/249، وانظر أيضاً: ثمرات التدوين، 121).
ومن الفروع الفقهية التي نتجت عن احتياط الشيخ لجانب (أمانة العمل الوظيفي) أنه كان يرى تحريم أخذ الإجازة الاضطرارية من أجل الذهاب للعمرة، لأن العمرة مستحبة والعمل عقد واجب، كما يقول الشيخ مثلاً:
(أسئلة كثيرة حول موضوع الإجازة الاضطرارية لمن يريد العمرة أو غير ذلك؟ على كل حال كلمة اضطرار تعني: أنه لا بد من ضرورة، والعمرة ليست ضرورة أبداً، حتى لو كانت فريضة والإنسان موظف فإنها لا تجب عليه؛ لأنه مشغول بوظيفة، فكيف وهي تطوُّع. وكذلك -أيضاً- بالنسبة لأئمة المساجد، هؤلاء الذين يذهبون إلى العمرة ويَدَعون مساجدهم، هم في الحقيقة كالذي يبني قصراً ويهدم مصراً، يذهبون إلى التطوع ويَدَعون الواجب، وهذا من قلة الفقه، عندهم رغبة في الخير ولا شك، ولم يحملهم على هذا إلا رغبة الخير؛ لكن عندهم قصور في الفقه، لا يعرفون ولا يميزون بين الأمور؛ لأن بقاءهم في عملهم الذي يؤدون فيه واجباً أفضل من ذهابهم إلى العمرة؛ لأن البقاء في العمل من باب الواجبات، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن الله قال: (ما تقرَّب إليَّ عبدي بشيء أحب إليَّ مما افترضتُه عليه). (جلسات رمضانية، ابن عثيمين).
وكان الشيخ يكرر هذه الفتوى في محافل كثيرة، وهذا المبدأ –أعني “احترام الأنظمة”-، صحيح أنه أصل مشترك بين فقهاء أهل السنة، لكن للشيخ ابن عثيمين -لمن تتبع فتاواه- مزيد اختصاص في التمسك بهذا الأصل وكثرة مراعاته والفتيا على أساسه، يعرف ذلك من له أدنى خبرة بنصوص الشيخ رحمه الله، حتى أن القارئ يستطيع أن يعرف موقف الشيخ بمجرد أن تكون القضية مما يتصل باحترام الأنظمة، وهذا الأمر لفت انتباه كثيرٍ من طلاب العلوم الشرعية، حتى خصص لها أحد الباحثين دراسة أكاديمية فقهية مستقلة بعنوان (ربط الحكم الشرعي بالنظام عند الشيخ ابن عثيمين: دراسة فقهية مقارنة) طرحها الباحث محمد بن عبدالله الطريقي.
فهذا نموذج من فقهاء الخطاب الشرعي، بل هو أهم مرجعية فقهية مؤثرة في الخطاب الشرعي بلا منافس، فتأمل كيف كان تعظيمه لأمانة وقيمة العمل كقيمة أخلاقية، تأمل كيف أثر هذا الأصل الأخلاقي على فتاواه الفقهية، ولم يجعل التدين قضية ظاهرية شكلية، ولننتقل الآن إلى شريحة الدعاة.
فمن شريحة الدعاة واسعي الانتشار: لنأخذ الشيخ محمد صالح المنجد، وله دروس وخطب وفتاوى وبرامج كثيرة وغزيرة جدا تتحدث عن قضايا الأخلاق بشكل عام وأخلاق العمل بشكل خاص، بالإضافة إلى جهوده في بيان القضايا العقدية والفقهية الأخرى، ومن ذلك:
(أكل أموال الناس بالتأويلات)، (الدين ليس مظهراً فقط)، (قيمة الإتقان)، (سلسلة الحقوق الزوجية)، (مهلاً أيها الزوجان)، (خطوات علاجية عند النفرة الزوجية)، (سلسلة الأخلاق الحسنة)، (الواجب نحو كبار السن)، (كيف نضبط انفعالاتنا؟)، (صيانة العلاقات الأخوية)، (التنافر والتجاذب في العلاقات الشخصية)، (كيف نتعامل مع أخطاء الناس)، (الاستشارة في حياة المسلم)، (اعتناء الإسلام بنفسية المسلم)، (الغيظ المكتوم بين الظالم والمظلوم)، ومثل هذا النمط من الموضوعات أكثر الشيخ المنجد من العناية به.
وأما دروسه في القضايا العامة للناس فمن نماذجها:
(غلاء الأسعار)، (الفقر: رؤية شرعية)، (الحلول الإسلامية لمشكلة الفقر)، (أسباب الأزمة المالية العالمية)، (أثر الأزمة الاقتصادية في نفوس الناس)، (رسالة إلى الطبيب المسلم)، (مصادر المعلومات)، (الجهل عدو المرأة)، (خطر الشائعات)، (سبل مقاومة الضغوط النفسية)، (قواعد في حل المشكلات)، (كيف تثبت المرأة جدارتها؟)، (أهل الباطل هم الإقصائيون)، (التفاؤل في أجواء الإحباط)، (البدائل الترفيهية).
وبالتالي فالقول بأن الخطاب الشرعي أو الدعوي غائب عن الأخلاقيات والأسئلة الحديثة إنما هو كلام غير علمي.
ومن المهم أن نفهم منهجية الخطاب الشرعي في تناول كثير من القضايا المدنية، ذلك أن الخطاب الشرعي لا يفرد كثيراً من المشكلات المدنية تحت أبواب خاصة، لكنه يتحدث عنها تحت مظلة المفاهيم الشرعية، فيتحدث العالم الشرعي عن (الأمانة) ويذكر أمانة الأسرة وأمانة الوظيفة ونحو ذلك، ويتحدث العالم المسلم عن (العدل) فيتحدث عن تطبيقاته كالعدل في القضاء، والعدل في الولاية، والعدل مع العمال، والعدل مع الزوجة، إلخ، فالقضايا المدنية في الغالب لا يفرد لها الفقهاء أبواباً خاصة، بل يدرجونها كتطبيقات تحت مظلة المفاهيم الشرعية، ولذلك فكثير من المفاهيم السياسية التي يظنها البعض غائبة هي أصلاً تندرج عندهم تحت موضوع (الحكم بما أنزل الله)، ثم يتحدثون عن أن الحكم بما أنزل الله يتضمن الشورى والعدل والحقوق والعناية بالرعية وحفظ كرامة المسلمين ونحوها.
وحين يتحدثون عن الحقوق يتحدثون عن حق الطريق، وحق الزوجين على بعضهما، وحق الراعي والرعية، وحقوق الحيوان في الصيد والذكاة والإحراق ونحوها. فالمفاهيم الشرعية كالعدل والأمانة والحقوق وإعداد القوة، وتحريم السرقة والغش وقول الزور، هذه كلها يُدخِل فيها العلماء القضايا المدنية.
والحقيقة إنني حين سمعت البعض يكرر أن (الخطاب الشرعي لا يعتني بالأخلاق وإنما بالشكل) عدت من جديد للمكتبة المقروءة والصوتية لرموز الخطاب الشرعي من فقهاء ودعاة وخطباء، وأخذت أتصفح مواقع المشايخ، وفهارس الخطب والدروس، ووالله العظيم إنني تفاجأت من المغالاة في النتاج الشرعي حول قضايا (بر الوالدين) (وصلة الرحم) و(الوصية بالجار) و(حقوق الزوجين) و(الصدقة على المحتاجين)، وفي كثرة التحذير والاستبشاع تجاه (الغيبة) (التنابز بالألقاب) و(الحسد) و(أكل أموال الناس بالباطل) و(الرياء) و(الغرور) وغير ذلك من قضايا أخلاقية نبيلة تتكدس فيها آلاف المحاضرات والدروس والخطب والفتاوى والكتيبات والمطويات والبحوث والدراسات.
بل إنني أتحدى كائناً من كان أن يأتي بأي تيار فكري معاصر في الشرق أو الغرب ويزعم أنه تكلم عن موضوع (بر الوالدين) بما يقارب عُشر ما تحدث به الخطاب الشرعي المعاصر! فكيف يقال بعد ذلك أن الخطاب الشرعي مغرق في التدين الشكلي؟! هذا لا يقوله إلا جاهل بهذا الخطاب، أو مصمم على التشويه لأغراض آيديولوجية.
أما حديث الخطاب الشرعي عن أخلاقيات تزكية النفوس، كالحض على التعلق بالله، والثقة به سبحانه، وحسن الظن بالله، واليقين به، والتوبة إليه، والاستخارة، والتحذير من الرياء، والتسخط من القدر، ونحوها فهذه أمور لا يعرفها الفكر المادي الغربي والشرقي على حد سواء.
والمراد أن من زعم أن علماء الخطاب الشرعي لا يتحدثون عن قضايا المدنية وقضايا الأخلاق التي تتصل بمصالح الناس، فإما أنه لا يعرف أصلاً هذا الخطاب الشرعي، وإنما يبني تصوراته من خلال مستهلكات المجالس، وإما أنه يعرف ذلك لكنه يريد إلغاء بقية الاهتمامات ويتوسل ببعضها ضد بعضها الآخر.