فولتير يسخر من العلمانيين المسلمين! الدكتور: محمد أبو نجيب

وجب على الأمراء العلمانيين تقبيل قدم البابا لا قدم من سواه من ذوي الدرجات الذين هم في مقام دون مقامه الديني، ولو كانوا على رأس الأديرة أو الكنائس، أو الكاتدرائيات، فإن سلطته التي أقرها هو لنفسه تمنحه كامل الحق في عزل الأباطرة أو الملوك. ونفس الحق يخوله تولية من يقع عليه اختياره من هؤلاء ومن أولئك. دون أن نفسر مزاعمه، لا بنص إنجيلي، ولا بنص توراتي. مما يعزز نفس الطرح لدى الحكام الذين طالما استبدلوا البابا بآخر غيره في أكثر من مناسبة! ما دام الطرفان المتصارعان كلاهما لا يستندان إلا إلى الأهواء الشخصية! لا إلى دين، ولا إلى قانون عقلاني منطقي! فكل طرف -متى انعدم التوافق والانسجام بينه وبين غريمه- يرغب في أن يفرض سيطرته على الطرف الآخر. فالأول يعتمد على فهمه للدين المتمثل في “الكهنوت”! والثاني يعتمد على ما لديه من سلطة موروثة منذ ظهور الدولة الرومانية إلى الوجود. يعني أن العلاقة التي كانت قائمة بين الأباطرة ورجال الدين الوثنيين قبل ظهور المسيحية. ينبغي أن تستمر -كعلاقة ضرورية حتمية- بين رؤوس الأنظمة الجمهورية، أو رؤوس الأنظمة الملكية. وبين الزعامات الدينية مشخصة في البابا أو في من يقوم مقامه. دون إغفال المواجهات الدامية بين الطرفين بخصوص من يحق له إخضاع خصمه لسلطانه! فالطرف الأول لا يريد تدخل الطرف الثاني فيما له من سلطات دينية ودنيوية! ومثله الطرف الثاني الذي يرفض تدخل البابوية إطلاقا في كل ما يتعلق بالنظام القائم على جميع المستويات! وخاصة على المستوى السياسي قبل غيره وبعد غيره!
وهنا يتبادر إلى ذهننا سؤال من خلاله تبرز أهمية عنوان مقالنا، هذا الذي صرحنا فيه بأن فولتير يسخر من العلمانيين المسلمين! وصيغته التي وقع عليها اختيارنا هي هذه: هل المعتمد لدى الزعامات الدينية المسيحية لإخضاع قادة الدول ورؤسائها هو النصوص الإنجيلية كأحكام سماوية منزلة؟
أم أن المعتمد لديهم هو ما تم لهم وضعه من فهم للدين، جرى تطويره مع مرور الزمن! والذي ليس له بالإنجيل أية صلة تذكر؟ تمثل في المعتقدات! أو تمثل في العبادات! أو تمثل في المعاملات؟
وقد نتساءل بصيغة مغايرة فنقول: مقابل ما لدى الزعامات الدينية من أفكار كهنوتية قائمة! فما الذي لدى الحكام يخالف ما لدى خصومهم الألداء إلى حد عملهم الدؤوب على التخلص منهم بصفة نهائية؟ إذا لم تكن لديهم مرتكزات دينية، فهل هذا يعني أن لديهم مرتكزات قانونية، تعطيهم حق التحكم فيمن لهم تلك المرتكزات المتصفة بالقداسة على حد زعم المدافعين عنها والدعاة إليها؟
لنترك الآن تساؤلا يخص مبررات الطرفين كليهما في محاولة إخضاع أحدهما لآخر! يكفينا أننا قد وضعنا بما فيه الكفاية يدنا على لب الموضوع الذي علينا لاحقا تقديم تفاصيل وتوضيحات ضافية عنه.
وكإصرار من البابا جريجوري السابع ( 1073-1085م) على تثبيت سلطة رجال الدين داخل مؤسساتهم وخارجها، يرى أنه “لا يجوز عقد أي مجمع ديني عام” إلا بأمره! يعني أن الراغبين في عقد أي مؤتمر ديني ، لا يحتاجون إلى ترخيص من طرف أي حاكم، وإنما يحتاجون إلى إذن قداسة البابا أو بالأحرى إلى أمره!
ومتى اتخذ البابا قرارا بشأن ما، فما على الجميع غير الإذعان له! في حين أن من حقه هو وحده أن يلغي بقية قرارات من سواه! مما يؤكد مرة أخرى وجوب شمولية سلطة الكنيسة حتى على جميع السلط الإدارية التي عليها أن تخضع وأن تستسلم للإدارة البابوية العليا!
ثم تزداد لهجة البابا تصاعدا وهو يعانق “العظموت” إلى حد ادعائه أنه “لا يسأل عما يفعل ولا يحاكم على تصرفاته”!
ومتى تحققت له كل أحلامه في أن يتحول إلى معبود! ومتى نفذت جميع أوامره التي هي ترجمة لإرادته. فإن له أن “يجيز لرعايا أي حاكم علماني التحلل من العهود وأيمان الولاء التي أقسموها لحاكمهم” دون أية اعتبارات أخلاقية، أو مسوغات قانونية، ما دامت الاعتبارات الدينية غائبة عن أيمان الولاء للحاكم. فلو أصدر البابا أمره المطاع إلى رعايا إمبراطور برفض طاعته. لكان على الرعايا أولئك تنفيذ أوامره العالية دون تردد! مما أدى في أحايين عدة إلى إثارة الفتن والقلاقل والفوضى والانقسامات!
إنما دون أن نمر هنا مر الكرام على صفة “علماني” كنعت لحاكم يرى البابا أن له الحق في تحريض رعاياه عليه كي يضربوا بالولاء والطاعة له عرض الحائط! فكلمة “علماني” كنسبة إلى “العلمانية” لم تكن وليدة الانتصار الذي حققه الحكام في نهاية المطاف على البابوية! ولا كانت وليدة للضربة العنيفة التي وجهها فلاسفة القرن الثامن عشر إلى الكهنوت الذي ساد أوربا لأزمان طويلة! وإنما هي كلمة سبقت في التاريخ ظهور المسيحية بكثير! إنها أخذت موقعها في القاموس السياسي منذ ظهور القياصرة أو الأباطرة الوثنيين أو حتى قبل هؤلاء وأولئك، كما سوف نوضح ما ندعيه بخصوص هذه القضية-الإشكالية.
ولما كانت الكنيسة تعاني -قبل ظهور جريجوري السابع في الواجهة- من ثلاثة أمراض خطيرة هي: السيمونية (= بيع الوظائف الدينية بأموال طائلة)، وزواج رجال الدين (حيث كان معظم القساوسة يتزوجون)، والتقليد العلماني الذي يعني تدخل الدولة لتعيين ولعزل كبار قادة الكنائس، بل وحتى لتعيين ولعزل البابا نفسه، فإن جريجوري السابع تصدى لتلك الأمراض التي حصر أخطارها في تطاول الحكام على ما يخص المؤسسات التي لا يدير غير البابا شؤونها. فكان أن اتخذ قرارا حاسما مؤداه أن أي رجل دين يتم تنصيبه من طرف الحكام سوف يحرم من الكنيسة ومن رعاية القديس بطرس! ونفس مصيره، سوف يعرفه أي حاكم تجرأ على تقليد أحد رجال الدين وظيفته الدينية!
إنها إذن باختصار شديد، محاولة لتقريب بعض صور المواجهة بين الكنيسة ورجالها، وبين الدولة وقادتها وموظفيها. وقد نقول: بين طرف يمثل الديانة المسيحية كما كان يفسرها ويؤولها ويفرضها على الجميع! وبين طرف هو امتداد تاريخي للعمل بالقوانين الوضعية التي تم إرساء دعائمها حتى قبل قيام الإمبراطورية الرومانية التي عرفت -على سبيل المثال- قانون الإصلاح الزراعي الذي أحدثه تبريوس جاركوس. كما عرفت دكتاتوريات سيلا وتشريعاته! فضلا عن دكتاتوريات يوليوس قيصر وإصلاحاته المتنوعة في روما وفي الولايات الخاضعة للسلطة المركزية. دون إغفال الإشارة إلى مناصب قيصر وسلطانه وألقابه الدينية التي انتهت بجلاوزته إلى حد تأليهه! فقد نصب له تمثال في معبد الإله كويرينوس! ويروي كاسيوس ديون أن هذا التمثال قد نقشت عليه كلمتان معناهما: “إلى الإله الذي لا يقهر”! بغض النظر عن وصفه بالكاهن الأكبر الذي له كامل السلطة على جميع الكهنة الوثنيين عمار مختلف المعابد وحراسها والمكلفين برعايتها وإقامة الطقوس فيها! مما يعني أن الأباطرة لم يكونوا قط خاضعين للزعامات الدينية قبل انتشار الديانة النصرانية. وعدم خضوعهم لها رسالة منهم كأسلاف إلى أخلاف لهم وجدوا أمامهم دينا جديدا غير الذي فسح المجال أمام قيصر وغيره كي يتحولوا إلى آلهة! بعد أن تجاوزت طموحاتهم حمل لقب الكاهن الأكبر!
وهكذا نصل إلى أن الدائرة سوف تضيق على العلمانيين المسلمين كلما أمعنا في تقديم شروح تفصيلية عما اعتبرناه ممهدات ضرورية لتبسيط مضمون عنوان مقالنا حتى لا نتهم بركوب متن الغموض، إمعانا منا في التضليل لغاية تمرير خطاب نحن في حاجة إلى تمريره. والحال أننا فيما نخطه بأقلامنا واضحون، تصحبنا أدلة وتعزز أقوالنا براهين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *