بات مؤكدا لدينا جميعا أن ما عاشته شعوبنا العربية الثائرة لم يكن ربيعاً عربيا ولا حتى خريفا ينبئ بهطول رحيم تزهر بعده الأراضي العربية، بل كان حلماً أو كابوسا أحال حياة هذه الشعوب إلى جحيم، وجعل الشعوب الأخرى ترتدع وتفضل التعايش مع الظلم والفساد بدل الثورة ضده أو التفكير في اجتثاثه.
وهذا بالتأكيد ما تصبو له القوى المتحكمة في السياسة العالمية : قمعُ جهةٍ لترتدع أخرى. وحيث أن الخوفَ فينا أصيل، فقد يسرنا لهم الظفر بما تهفو نفوسهم إليه. لكن الغريب في الأمر أنه رغم أن كل الأوراق باتت مكشوفة، وكل الحيل والمكائد السياسية أضحت مفهومة للصغير قبل الكبير وللعامي قبل المتخصص، فإنه لا أحد يستطيع أن يحرك ساكنا ويثور ضد المنكر ثورة تجتثه من جذوره.
فمثلا في مصر الشقيقة الكثير منا مع شرعية مرسي ومستاءٌ لما حدث لجماعة الإخوان المسلمين، ويشهد أن القضاء أفَّاكٌ وبارع في التواطؤ مع المعتدين، ويشمئز من طريقة تلفيق التهم بلا تحقيق ولا حسيب ولا رقيب، ورغم ذلك لم يحرك أحد ساكناً، ولا ضرب على يد الظالم، بل لم نلْمح غيرتصفيقٍ وتثمين لهذه الخطى الظالمة.
لقد بات يخيل لي في ظل هذا الصمت القاتل والتخاذل الآثم، أنه لو هُدِّمَ بيتُ الله الحرام وتهاوت جدرانُ المسجد الأقصى بغياً فلن يعْدو ردُّ فعلنا أن يكونَ تنديداً وتظاهراً في الشوارعِ وأن القوى الحاكمة لن تحرك ساكناً، وستنسب الأمر كعادتها “لجماعة إرهابية” قد تكون وهمية كما تفعل أمريكا، وقد تكون منافساً قويا يُخشى منه كما فعل السيسي وأتباعه.
لكن السؤال الذي يلقي بظلاله الآن: هل فعلا حان وقت التغيير أم ما زال الطريق طويلا؟
حسب ظني المتواضع؛ أجيال فاقدة للحس بالمسؤولية، منغمسة في مستنقعات الشهوات والرذيلة، حاملة لواء «أنا وبعدي الطوفان» لن تصنع أي تغيير.
أجيالٌ تربت على تقديس ما لا يعتبر مقدسا، والاستهانة بكل مقدس، لن نطمع أن تقوم بأي تغيير.
أجيال تترنح يمنة ويسرة من وقع الإدمان الذي أسكر العقول والهوى الذي أسكر القلوب، لا يتوقع منها أن تصنع معجزة كسر صنم الفساد.
نحتاج لتقويم اعوجاج أنفسنا أولا، وإعادة بناء المواطن الصالح صاحب العقيدة الصحيحة والحامل لمشعل الفضيلة والخلق الإنساني السوي.
نحتاج لمصالحة مع ذواتنا قبل المصالحة مع الآخر، نحتاج أن نجتث الفساد الكامن فينا وفي أسرنا وفي محيطنا الصغير، قبل أن نطمح لتغييره في محيطنا الكبير.
نحتاج نقلة نوعية لشبيبتنا كما قال مالك بن نبي:
«فعلى المربيِّن في البلاد العربية والإسلامية أن يُعلّموا الشَّبيبة كيف تستطيع أن تكتشف طريقا تتصدر فيه موكب الإنسانية، لا أن تعلِّموها كيف تواكب الرّوس أو الأمريكان في طرائقهم، أو كيف تتبعهم؟
ولو أُتيح لهذه الشبيبة أن تعتنق مشكلة تكامل الإنسانية بحيث تمنحها كل ذكائها، وكل قلبها، حتى تجعل منها رسالتها، فلسوف تحتل مقام الصدارة في الزحف نحو اتجاه جديد، نحو تقرير مصائر الإنسانية، ولعلها بذلك تمحو الشرور التي تفشّت اليوم في حنايا أنفسنا ولعلها أيضا تمحو بعض الشوائب والمذاهب التي خامرت عقولنا»…
حينها فقط يمكن أن نتحدث عن جيل الصحوة الحقيقي الذي سيحمل مشعل التغيير ويحقق للشعوب العربية المقهورة الربيع الذي تحلم به.