حمل المغاربة على فتح صدورهم لمالك والأشعري والجنيد -الحلقة الخامسة- تتمة الدكتور محمد وراضي

نعتذر عن عدم تقديم بقية شروط طريقة الجنيد، وهي ثمانية، في الحلقة الخامسة من العدد الماضي 109، فقد اكتفينا لأسباب خارجة عن إرادتنا بتقديم أربع منها، مؤجلين تقديم بقيتها في هذا العدد، بحيث إنها تشكل تتمة للحلقة الخامسة ومدخلا إلى الحلقة السادسة.

5- دوام الصوم: شرط خامس نهى عنه صلى الله عليه وسلم في أكثر من مناسبة! فكيف نجعله من شروط طريقة نحن مبتدعوها! يكفي استحضار بعض من الحوار الذي دار بين البشير النذير وبين عبد الله بن عمرو بن العاص الذي كان يصوم الدهر، ويقرأ القرآن كل ليلة، فقال له صلى الله عليه وسلم ناهيا وموجها ناصحا: “حسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام”.
ولكنه لم يلتزم بأمر المختار وإرشاده، وقد قال له من ضمن ما قاله له: “إن لزوجك عليك حقا، ولزوارك عليك حقا، ولجسدك عليك حقا”!
ولما تقدمت به السن قال معلنا ندمه: “فشددت فشدد الله علي”، ثم قال: قال لي رسول الله: “إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر”. قال: فصرت إلى ما قاله لي. فلما كبرت ووددت أني كنت قبلت رخصة نبي الله -صلى الله عليه وسلم-! ثم قال: “لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أحب إلي من أهلي ومالي”!
إنه الندم الناجم عن المغالاة في التعبد إلى حد الوصال في الصيام. مع الإشارة إلى أنني تصرفت في تقديم الحديث الوارد عند كل من البخاري ومسلم، نقلا عن الشاطبي في الجزء الأول من الاعتصام.
فيكون دوام الوضوء ودوام الصيام شرطين من شروط طريقة محدثة، صاحبها -على ما يبدو- غير مستوعب لمضامين سنة المجتبى في باب العبادات. إنهما أشبه بلزوم ما لا يلزم! وهل المغاربة المتبجحون بأنهم على طريقة الجنيد يصومون الدهر إلى يوم الناس هذا؟
6- ترك الخاطر: سبق القول بأن الخواطر خطابات ترد على الضمائر، وأن هذه الخطابات متنوعة. فهل نهتم بها للتمييز فيها بين ما هو إلقاء ملك أو إلقاء شيطان؟ أو أحاديث نفس؟ أو من الحق سبحانه؟ أم إن الأمر يتعلق هنا بخواطر تصرفنا عن التركيز في أداء الأذكار ونحن في الخلوة معتكفون؟ هذا يمكن القبول به، لأن الخواطر حينها عرقلة، فيكون علينا صرف النظر عنها، مع التنبيه إلى أن ما يلقيه الملك في روعنا أو يوحي به الحق سبحانه إلينا صعب قبولنا بهما كطرحين، ما لم نرجع إلى الكتاب والسنة للتأكد منهما أو من أحدهما، وحتى للتأكد من حديث النفوس ووساوس الشياطين. يعني أن لدينا مرجعية لمعرفة مصدر خواطرنا، إنما على أساس أن نكون بعلوم الدين مسلحين.
7- دوام ربط القلب بالشيخ: هذا الشرط جرى تطويره إلى حد أن المريد في الوقت الحالي، يحاول استحضار صورة شيخه بين عينيه إن سبقت له رؤيته. وقد ينتهي به الأمر إلى وضع صورته أمامه كما يفعل البودشيشيون! وإلا فاستحضاره في القلب متى لم يتمكن من رؤيته، أو من الحصول على صورته.
إن الشيخ في كل الأحوال أشبه بالقبلة التي يتوجه إليها المؤمنون في الصلاة!!! بينما كان الأجدر بالمؤمن أن يستحضر الله قبل غيره في قلبه. وقد يستحضر فيه رسوله كإلحاح منه على الاقتداء به. أما استحضار الشيخ على الدوام في القلب، فاستحضار لمن لا يرقى إلى درجة المعصوم!
ثم كيف يتم استحضاره والذاكر غارق في ذكر مولاه الذي ينبغي أن لا يصرفه عنه أي صارف يذكر؟ ثم كيف نجمع بين استحضار المطلق والنسبي في الآن ذاته؟
8- دوام الرضا بقضاء الله وترك الاعتراض على الله وعلى الشيخ:
إن الرضا بقضاء الله ترجمة حرفية للإيمان بالقدر خيره وشره، وهو إيمان مطلوب من كل مسلم ومفروض عليه. ومتى جحده أو شك فيه، عد في الحال من المرتدين الذين تلزمهم التوبة النصوح، أو تجديد الإيمان كي يعودوا مجددا إلى صفوف المؤمنين.
أما ترك الاعتراض على الله وعلى الشيخ، فينظر إلى الأول على أنه كفر بواح. بينما يفرض التساؤل نفسه عما إذا كان الثاني يرقى بالمعارض لشيخه إلى درجة الكفر؟ أم أنه لا يتجاوز درجة العصيان الذي لا يخرج المؤمن عن دينه؟
قال الجنيد عن قصة موسى مع الخضر: “لما أراد صحبة الخضر، حفظ شرط الأدب، فاستأذن أولا في الصحبة، ثم شرط عليه الخضر أن لا يعارضه في شيء، ولا يعترض عليه في حكم، ثم لما خالفه موسى عليه السلام، تجاوز عنه في المرة الأولى والثانية، فلما صار إلى الثالثة -والثلاث آخر حد القلة وأول حد الكثرة- سامه الفرقة فقال: “هذا فراق بيني وبينك”!!!
وأضاف الجنيد: “سمعت أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول: بدء كل فرقة المخالفة، يعني أن من خالف شيخه لم يبق على طريقته، وانقطعت العلاقة بينهما، وإن جمعتهما البقعة. فمن صحب شيخا من الشيوخ ثم أعرض عنه بقلبه فقد نقض عهده، ووجبت عليه التوبة”! فليكن المريدون إذن عبيد المشايخ، لا مناقشة ولا اعتراض! من قال لشيخه: لم؟ لا يفلح أبدا!
وها هنا نكتة: موسى تلميذ الخضر ومريده. يأتيه الوحي من السماء بواسطة الروح الأمين. أما الخضر ففي استغناء عن الواسطة! فما لديه من علوم تلقاه مباشرة من ربه! بحيث يكون من يتلقى عن ربه مباشرة، أرفع درجة أو أعلى مقاما ممن يتلقى عنه بواسطة.
فالأولياء إذن على هذا الاعتبار ارقى درجة من الأنبياء والرسل!!! هذه قناعة ابن عربي ومن معه من الأتباع والمتعاطفين والمؤيدين! ومن راوده شك أو ارتياب فيما ندعيه، فليقرأ “الفتوحات المكية” و”فصوص الحكم” له بإمعان وتبصر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *