أعجبتني كثيرا تلك العبارة التي جاءت في واحد من سلسلة طويلة من الردود التي لا يجب أن نقرأ منها إلا ما يمكن أن نقرأه من بحر الوافدين على صلاة التراويح؛ ومن فيض المقترعين على بغية حج بيت الله الحرام؛ وكيف أن المرء ليدهش وهو لا يكاد يفرق بين من أصابته قرعة المطففين من الذي أخطأته، إذ الكل كان يجهش بالبكاء الحار الذي يحكي واقع تجدر هذا الدين العظيم في تجاويف قلوب المغاربة جميعهم؛ إلا نفر لا يحملنا كمهم ولا كيفهم على ذكرهم إذ النادر لا حكم له؛ والرقم الهابط المتسفل في النقيصة والنقصان لا يحفظ التاريخ ذكره إلا بالتعريج عرضا أو الذكر كناية في باب سوق أمثلة السوء.
أعجبتني عبارة ذلك الشاب المتين الانتساب الشديد الغيرة حينما ضرب المثال تقريبا بين ذلك الذي تبول في بئر زمزم ولما خلصوا من تعزيره سألوه عن باعث الإقدام ومقصد هذه الجراءة فأجابهم بأنه رام الشهرة وحفظ الذكر ولو بسوء، وكيف أن التاريخ لم يحفظ اسمه ولم يتعرض لرسمه إلا بالكناية والتلميح الذي مفاده: “ذلك الذي تبول في بئر زمزم”.
وهذا الذي رضي السوء والفاحشة في أهله نعوذ بالله من الدياثة وما قرب إليها من قول وعمل، وكما أن بئر زمزم لم يتنجس ماءه؛ والماء إذا بلغ نصاب القلتين لم تؤثر فيه قذارة؛ وذلك بئر بضاعة شاهد على أن الماء طاهر لا تنال من طهوريته مجاورة نطيحة ولا مخالطة متردية، وكذلك هذا الشعب المغربي العزيز الذي رفع بندقية المقاومة وضحى بالنفس والنفيس يوم كرت عليه الصليبية تروم النيل من الأرض والعرض والدين وهو ماض على عهده ووعده؛ صادق في انتسابه؛ عزيز في عرينه؛ لا يهاب قطعان الضباع؛ ولا يهادن طباع الخنازير؛ يحلل ما أحله الله ويحرم ما حرم الله.
وكل خرق لهذا الميثاق الغليظ لا يجب أن يقرأ في دائرة جلبة التحرر المقيت وفوضى الحريات الفردية التي يتشدق بها اليوم المتشدقون الحداثيون، بل هذا الخرق لا يعدو أن يكون غلبة هوى؛ وضلالة تلبيس؛ وانتكاسة سلوك مضغوط من مغريات تعرض في كل مكان وزمان عرض زيغ ؛وفتنة بين البخس والمجان.
وليس كلامنا هنا من باب المزايدة التي لا مستند لها؛ أو من باب الرجم بالغيب الذي يكذبه الشهود والشهادة؛ بل هذه الأحداث التي مرت وربما تناساها البعض عمدا وأحصاها آخرون اعتبارا لتشرح عمق انتساب المغاربة إلى دينهم الذي ارتضاه الله سبيلا للمؤمنين ونبيهم محمد صلى الله عليه وسلم الذي جعله ربنا رحمة مهداة للعالمين.
واسأل العادين عن رواد مائدة الإفطار النهاري في مدينة المحمدية، وعرس الشواذ في مدينة القصر الكبير، وهذه الأغلبية الحكومية غير بعيدة عنا وعنكم، وتلك السقطة المدوية التي تعرض لها حزب الأحرار جراء خرجة مزوار ضد الحجاب، وسلسلة الردود الطويلة والعريضة ضد خرجة هذا الذي رضي السوء والفحشاء في أهله، وقائمة الأحداث التي جاءت على وفق الفطرة السليمة والجبلة القديمة والتي ما فتئت تطفو على السطح، وتتصدر المواجهة كلما مرق مارق؛ وانفضح فاضح؛ وتكشفت خبيئة منافق.
أحداث يفرغ عليها البعض قطرا ليواري نورها بوأد حداثي حائف لكنها المرة تلو الأخرى رحمة من ربي تسطاع أن تظهر ردم القوم؛ وتستطيع نقب ما الله جاعله دكا وكان وعد ربي مفعولا.
وفي ظل هذا الوعد على كل مؤمن أن لا يخشى صولة الباطل ولا يهاب صنيع الكذب الذي امتهنه قوم لا حياء لهم ولا خلاق؛ وأن لا يخاف حبال السحرة، فإن عصا الحق تلقفت ما خلناه يسعى وحسبناه تخيلا يحيا.
وفي ظل ذلك الوعد الحق على كل مؤمن أن يستشرف النصرة والغلبة وأن يعمل ذلك الحكم الحاسم الذي قرره ربنا جل جلاله متى ما دارت معركة بين أهل الحق وصناع الباطل؛ {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ} لكن هذا الاستشراف للغلبة مرهون بالأخذ بالأسباب الشرعية الواجبة والعمل على تمييز الطيب عن الخبيث متى ما امتزج فصام المساحيق ومتى ما نجح المدلسون في خلط الغث بالسمين في حوجلة المروق العلماني والزيغ الحداثي.
ولا ضير أن نعيد ما كنا أسلفنا ذكره تخبيرا عن الله سبحانه حين ذكر صنيع فرعون قائلا سبحانه: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ} ونحن في هذا الاجترار نود أن نطرح ونستفهم استنكارا:
متى كان لفرعون دين يخشى عليه الفساد والكساد ومتى كان موسى كليم الله مفسدا في الأرض؟
وقد يجرنا هذا الاجترار عنوة لنفتح المعقوفة بعدما جعلنا القوس موصدا مع تلك العبارة التي صدر بها ذلك الذي رضي السوء في أهله مقاله المعنون: “ارحموا هذا الدين”، والتي جاء فيها بالحرف:
“حزين جدا لا من أجل الفتوى الجاهلة التي أطلقها عبد الله النهاري فقد تصدى له المغرب كله بما يليق من حزم يستحق كل شكر واحترام لكن من أجل صورة الإسلام التي يروجها أمثال هذا المدعي عن الدين الحنيف”.
لنقول له نصحا: حري بك حقا وصدقا أن تحزن على نفسك أولا لأنك شيعت المروءة إلى لحد الزيغ، وبعت الذي هو خير بالذي هو أدنى، وهبطت بسوي الفطرة إلى مصر من أمصار الزيغ والدياثة، وفوق هذا وذاك لا تزال تنهل بقلمك المدخون من معين البضاعة المزجاة وسلعة الكذب الذي صدّرت به مقالك هذا، وقد قيل قديما أن الكذب لا يكون ولا ينجح تلبيسه إلا إذا كان على الموتى، أما أن يكذب الكاذب على الأحياء فهذا من الجرأة وقلة الحياء.
وإلا فعلى أي محمل يمكن أن نحمل ثقل كذبتك التي قلت فيها أن المغرب كله؛ ونضع خطا سميكا على لفظة “كله” قد تصدى للشيخ النهاري بما يليق من الحزم.
ونحن رأينا ولمسنا لمس فأرة الحاسوب ردود فعل هذا الشعب الحيي الذي لا زال يحمد الله إجمالا يتمعر وجهه لانتهاك حرمة من حرمات الله، وعليه فالتي كان عليك من الواجب أن تقدم بين يديها صكوك الشكر وحمرة الحياء والاحترام، فالتي حملتك وهناً على وهن وحملك وفصالك في عامين، ولكنك آثرت أن تشكرها شكر الجاحدين بإرسالها إلى فراش السفاح، الذي جعل لنا الله البديل عنه من لباس ورفث وحرث ونكاح يحفظ النسل ويحصن المجتمع من مهالك السوء وأتون الفتنة المردية.
ثم إذا كنت قد نسيت أو تناسيت ذكرناك بما كنت قد صدقت فيه القول مع المذيعة التي سألتك عن نسبة من يحمل فكرك؛ فأجبتها معترفا: أنكم ولله الحمد قلة قليلة؛ وما تفعل النجاسة القليلة في الماء الكثير؟
فلا هي تستطيع أن تغير من لونه؛ ولا من طعمه؛ ولا من ريحه.
أما دعوى الحزن والخوف على صورة الإسلام الوسطى؛ فهي دعوى تحتاج إلى ألف دليل ودليل!
خصوصا إذا صدرت من أناس لا يعرفون من الإسلام إلا اسمه، ومن الإيمان إلا رسمه، ومن الإحسان إلا لفظه.
وهم لما بلونا أخبارهم ذهلنا؛ لما اكتشفنا أنهم لا يحسنون الغسل كان كاملا أو مجزئا، ومع ذلك لا يتورعون عند حبر سطورهم عن خوض غمار سوق الأدلة وتنزيلها على مناط هواهم.
ولا غرابة بعد الذهول إذا علمنا أننا نواجه أولئك الذين كانوا للشيطان نصيبا مفروضا، مصداقا لقوله تعالى تخبيرًا عن رهان إبليس: {وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا، وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا”.
نعوذ بالله أن نكون من الخاسرين.