الخطاب الشرعي ومقاصد الشريعة إبراهيم السكران

يظن -بعضهم- أن المقاصد والشاطبي تعني التخلص من “أغلال سد الذرائع” ومنح الحياة فسحة كما يقولون، بينما الشاطبي/المقاصدي يعتبر “سد الذرائع” أحد أعظم مقاصد الشريعة، وخصص له فصولاً طويلة ساق فيها الأدلة عليه، بل هو لا يسيغ المخالفة فيه باعتباره عنده أصلاً مقطوعاً به كما يقول:

(سد الذرائع مطلوب مشروع، وهو أصل من الأصول القطعية في الشرع) [3/263].

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تدفع باتجاه “تحجيم أدلة الشريعة” ليتسع للناس حرية الحركة في الحياة العامة كما يقولون، والواقع أن الشاطبي/المقاصدي ليس كذلك، بل إن الشاطبي يتوسع في الأدلة لدرجة أنه يعتبر “عمل الصحابة” نوعاً من السنة النبوية، كما يقول:

(ويطلق أيضا لفظ “السنة” على ما عمل عليه الصحابة، وجد ذلك في الكتاب أو السنة أو لم يوجد؛ لكونه اتباعاً لسنة ثبتت عندهم لم تنقل إلينا، أو اجتهاداً مجتمعاً عليه منهم أو من خلفائهم؛ فإن إجماعهم إجماع، وعمل خلفائهم راجع أيضاً إلى حقيقة الإجماع من جهة حمل الناس عليه) [4/290].

ثم قال في تلخيص ذلك:

 (وإذا جمع ما تقدم؛ تحصل منه في الإطلاق أربعة أوجه: قول النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله وإقراره..، وهذه ثلاثة، والرابع: ما جاء عن الصحابة أو الخلفاء) [4/293].

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تدفع باتجاه “التساهل الفقهي“، بينما الشاطبي بضد ذلك كلياً، ومن أمثلة فتاواه أنه اعتبر تارك صلاة الجماعة لا تقبل شهادته كما يقول:

(صلاة الجماعة، من داوم على تركها يجرح، فلا تقبل شهادته؛ لأن في تركها مضادة لإظهار شعائر الدين، وقد توعد الرسول -صلى الله عليه وسلم- من دوام على ترك الجماعة؛ فهم أن يحرق عليهم بيوتهم) [1/211].

واعتبر أن كشف الرجل لرأسه إذا جرت العادة بتغطيته قادح في عدالة الرجل كما يقول:

(كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع، فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك، فيكون عند أهل المشرق قادحاً في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح) [3/489].

بل ويرى الشاطبي أن “النهي عن المنكر” لن يخلو من الإساءة للآخرين عرضاً، ومع ذلك فإن هذا لا يقدح في شرعيته، كما يقول:

(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ فإنه أمر مشروع لأنه سبب لإقامة الدين وإظهار شعائر الإسلام، وإخماد الباطل على أي وجه كان، وليس بسبب في الوضع الشرعي لإتلاف مال أو نفس، ولا نيل من عرض، وإن أدى إلى ذلك في الطريق، وكذلك الجهاد موضوع لإعلاء كلمة الله، وإن أدى إلى مفسدة في المال أو النفس) [1/374].

وقرر أيضاً منع المرأة من الولاية العامة، ومنع المرأة من ولاية إنكاح نفسها، كما يقول في المصالح التي راعتها الشريعة في جانب المعاملات ما يلي:

(وفي المعاملات، كالمنع من بيع النجاسات، وسلب العبد منصب الشهادة والإمامة، وسلب المرأة منصب الإمامة وإنكاح نفسها) [2/23].

ويظن هؤلاء أن المقاصد والشاطبي تتضمن “ترسيخ ظاهرة الاختلاف” واعتباره ظاهرة صحية، بينما الشاطبي/المقاصدي أكثَرَ من الحط على الاختلاف في فهم الشريعة واعتباره ظاهرة مرضيّة، كما يقول في بعض معالجاته لهذه القضية:

(فإنه -أي الشارع- رد المتنازعين إلى الشريعة، وليس ذلك إلا ليرتفع الاختلاف، ولا يرتفع الاختلاف إلا بالرجوع إلى شيء واحد) [5/60].

(والآيات في ذم الاختلاف والأمر بالرجوع إلى الشريعة كثيرة، كلها قاطعة في أنها لا اختلاف فيها، وإنما هي على مأخذ واحد وقول واحد) [5/61].

كل من سمع كلام هؤلاء عن المقاصد والشاطبي، ثم قرأ كتابه، فإنه سيكتشف حتماً أن هناك شاطبيين وليس شاطبياً واحداً، هناك الشاطبي الحقيقي الذي كتب الموافقات، وهناك الشاطبي المزيف الذي تمت دبلجته في المعامل الفرانكفونية وتسويقه كنسخة مقرصنة للمستهلك الكسول الذي لا يفحص مدى موثوقية ما يسمع..

وعندما عرض عبارة “اختلاف العلماء رحمة” رد عليها من خلال الداخل المذهبي نفسه، كما يقول:

 (وأما قول من قال “إن اختلافهم رحمة وسعة” فقد روى ابن وهب عن مالك أنه قال: “ليس في اختلاف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سعة، وإنما الحق في واحد”) [5/75].

 

هذه جولة خاطفة في المقارنة بين الصورة التي يتم ترويجها حول الشاطبي، والشاطبي الفعلي كما هو، وكل من سمع كلام هؤلاء عن المقاصد والشاطبي، ثم قرأ كتابه، فإنه سيكتشف حتماً أن هناك شاطبيين وليس شاطبياً واحداً، هناك الشاطبي الحقيقي الذي كتب الموافقات، وهناك الشاطبي المزيف الذي تمت دبلجته في المعامل الفرانكفونية وتسويقه كنسخة مقرصنة للمستهلك الكسول الذي لا يفحص مدى موثوقية ما يسمع.

هذا يعني أن الشاطبي تعرض لحملة تغريب مكثفة، ونجحت هذه الحملة -للأسف- لأننا أمام جيل يستهلك الشائعات الفكرية عن التراث الإسلامي دون أي حس علمي في تمحيصها، وهذا يعني أيضاً أن (علم مقاصد الشريعة) و(الموافقات) و(الشاطبي) بحاجة لحملة مضادة لاستنقاذها من عمليات التزييف المنظم، والحيلولة دون استغلالها في تبرير مفاهيم الإباحية الفقهية.

هذا هو المحور الأول وهو تحليل حقيقة الشاطبي وكتابه وعلم المقاصد الذي توسع في شرحه، لننتقل الآن إلى المحور الثاني لهذه الإشكالية: هل يعرف الخطاب الشرعي المعاصر أبحاث المقاصد؟

الحقيقة أنه إذا اتضحت حقيقة المقاصد والشاطبي فيبدو أننا لسنا بحاجة لهذا السؤال الثاني أصلاً، ولكن مع ذلك سنشير لبعض النماذج من دراسات الباحثين الشرعيين في علم المقاصد:

(المختصر الوجيز في مقاصد التشريع) عوض القرني، (مقاصد الشارع الضرورية: دراسة نظرية تطبيقية) محمد بن علي المري، (اعتبار المقاصد في الشريعة) عبد العزيز بن عبدا لرحمن السعيد، (تهذيب الموافقات) للجيزاني، (مقاصد الشريعة في حفظ المال وتنميته) محمد سعد المقرن.

فضلاً عن الدروس الشرعية المنتشرة والمسجلة في شرح كتاب الموافقات للشاطبي (وممن لهم شروح على الموافقات: الشيخ ابن غديان، الشيخ عبدالكريم الخضير، د.مساعد الطيار، د.يوسف الغفيص، وغيرهم).

يبدو الآن أننا انتهينا من مناقشة أهم ما يتصل بإشكالية علاقة الخطاب الشرعي بعلم المقاصد والشاطبي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *